السبت، يونيو 30، 2012

موعد غرامي مع 4 ثيران


كانت تجاربه في هذا الحقل كثيرة،لو كان قام بمثل عددها داخل معمل كيمياء لربما توصل لعلاج قاطع لمرض جنون البقر أو سارس أو لأخترع جهاز ينافس ريختر في قياس قوة الزلازل !!
   ....
    مازال يتذكر حديثه القصير جدا- 37 ثانية زي العداد ما قال !- مع تلك الفتاة العربية التي سرق رقم موبايلها من أحد معارفه،حادثته بعد سيل من الرسائل النصية المتبادلة-و كل الشكر لشركة المحمول لأن عرض الرسائل الدولية كان في موعده بالتمام!- أرسل لها الكثير و بعدها طلبت منه أن يتحدثا بدلا من الرسائل..
 فرد عليها :
هو ده اللي انا عاوزة !! اتصلي بيا يالا !!
- ردت هي :
لو بدي أحكي اتصل بي انت,عندنا شب هو احكي مع بنت مو بنت احكي مع رجل !!
- فرد هو :
عندنا بقى البنت هي اللي بتتصل بالشاب،أو تحول له رصيد و تقول له كلمني عشان تقول لصحابتها شوفو مكلمني أد إية !!
- ردت هي :
أنا مش عاوزة أخسر فولوس..انا عندي حبيب و يقعد يحكي معي على طول !!
- رد هو:
أول واحدة عربية أشوفها بخيلة كدة!!
..طيب سيبك منك و شوفي لي واحدة صحبتك ما تكونش بخيلة زيك !
- ردت هي :
أنا ما بدي أحكي معك و لا بدي أكون صديقة معك!!
سلام ..أخر مرة!!
- رد هو :
انتي زعلتي؟..سلام سلام !..أخر مرة !!
  و لكنه كان يعلم انها ليست أخر مرة و تأكد من ذلك عندما وجد هذه الرسالة بعدها بيوم واحد فقط تطرق باب اينبوكسه وفيها:لكن تدري فيك شي يشد !!
و لكنه رجل صاحب مبدأ طالما قال انها أخر مرة يبقى خلاص !!
 ....     
      لكنه في تلك المرة عندما ألف ذلك الرقم و بعث إليه رسالة بالألمانية كان لديه شعور مؤكد أنه رقم بنت-فالأرقام الحريمي بتبان!-هو عادة ما يكتب الرسائل بلغات أجنبية-فهو يتحدث ثلاث لغات بجانب العربية- كي لا يفهم من تصله الرسالة ماذا تقول وكي لا يشك من تصله الرسالة أيضا أنه شخص جاهل يتسلى!! المهم هو أن من تصله الرسالة يرد،و هنا كانت خبرته،فإذا طالت المدة بعد إرسال الرسالة و لم يرد أحد تيقن أن من وصلته الرسالة بنت فلو كان شاب لأتصل به فورا بعد إستلامه الرسالة فلربما تكون بنت و لا حاجة !!
    و لكنه مع تلك الفتاة أستغرب قليلاً،فقد جاءه الرد بعد الرسالة الأولى و كان :
please call me,thank you
توجس قليلا،ساوره الشك،فكتب رسالته الثانية بالألمانية قائلا فيها أنه الأن ليس معه رصيد كافي،كلمني انت !!
ربما المرسل إلية لن يفهم,و هذا هو المقصود!!,فأنتظر و جاء الرد :
ممكن تكتب عربي يا أستاذ !!
..عليا الطلاق كدة بنت !!
قالها لنفسه فخورا بكونه قد اكتشف الحقيقة و أضاف فتح جديد إلى فتوحاته!!
و عليه فقد إتصل فورا !!
( ولنا أن نتخيل كم الرقة و السهوكة في إتصال تليفوني بين بنت و ولد لأول مرة!)
- هو : ألو
- هي : ألو
- هو :مساء الخير !!
- هي : مساء الخير !!
- هو : فهمتي حاجة من رسايلي..أوة!!..قصدي وصلتك رسايلي؟
- هي : أيوة..بس انت مين؟!
- هو (متصنعا الاستغراب) :أنا مين؟..تصوري برضة ان صوتك غريب شوية..ولا يمكن عشان التليفون و كدة ؟
- هي(في إستغراب) :غريب عليك !!
- هو(بكل براءة) : هو انتي مش ميرفت؟احنا كنا لسة مع بعض امبارح !
- هي(ببرود) : لا انا مش ميرفت !!
- هو(في تصنع محكم) :أوه..أنا أسف جدا..بجد أسف أوي..واضح اني أخدت الرقم غلط !
- هي(في لهجة مشجعة و ليست مهددة) :لا ما فيش مشكلة
- هو(متغابيا) :طيب ! أسف مرة تانية..عاوزة حاجة؟!
- هي(باستغراب كأنها تخاطب شخص مجنون) : لا شكراً !
- هو : طيب مع السلامة !!
 و قفل الخط و هو سعيد !!
      لم يكن غريب الأطوار و لم يكن مجنون فما فعله كان نجاح باهر للجزء الأول من الخطة!!وعليه فقد إنتظر لليوم التالي ثم أرسل لها رسالة،ولكن هذه المرة باللغة العربية : إنتي صحيح ما طلعتيش المقصودة بس بصراحة محتاج أكلمك،ممكن نبقى أصحاب؟لو وافقتي ردي عليا..و انتظر الرد..و انتظر..و انتظر..و لم يأتي أي رد !! و لأنه رجل صاحب مبدأ فقد قرر عدم التغليس عليها،لابد أن يكون برضاها،ولكنه حبذ أن يجرب أخر ما عنده!! فأرسل إليها هذه الرسالة : أنا عارف ان البنت بتخاف تتكلم مع حد ما تعرفوش لا يكون هو عارفها و بيشتغلها،بس أنا و الله ما اعرفك و لا حد مسلطني عليكي انا كنت عاوز بس اتكلم..أنا أسف..سلام.
و جاء المفعول أكيد،و جاء الرد :
كلمني شكراً !!
    كلمها وتخطيا مرحلة التعارف و ما بها من أكاذيب و لكنها أبهرته مرتين،الأولى عندما سألها: إنتي مخطوبة؟ أو مرتبطة؟
فأجابته : أنا مخطوبة..بس مش مرتبطة !!
فسألها في حيرة :لغز ده و لا إية ؟!
فردت : لأ..بس أنا...
و توقفت و بدى التردد في كلامها فسألها هو مشجعها على الكلام :
إية ؟ إنتي إية؟
فأجابت مباشرة : أنا ما بحبش خطيبي !!
و بعد حوار طويل في أسباب ذلك و لماذا قبلت و كيف..و أسئلة من نوعية،من منكم يتصل بالأخر انت ام هو؟هل بتخرجوا سوا؟طيب بتحسي بأية و انتي معاه؟ما حاولش يلمس ايدك(ما كانش ينفع يزودها!!)؟و لو حاول كان رد فعلك إية؟... الخ,طريقة شرحها و جدالها و تبريرها أعجبته وشعر معها أنها فيلسوفة و تحمل الدكتوراة و ليست طالبة في السنة الثالثة بكلية التجارة..هذا الى جانب صوتها الجميل طبعا و الذي تأكد بخبرته أنه حقيقي و ليس تمثيل !!
أما المرة الثانية فكانت عندما سألته من أين هو،و أجابها : أنا من بلطيم، و انتي؟
فقالت : بلطيم ؟!! أنا من كفر الشيخ،دا احنا كدة بلديات!!
سألها : أكيد جيتي المصيف عندنا قبل كدة؟
قالت : طبعا دا أنا حفظاه
فقال : جميل..أنا بردة شغال في المصيف
فقالت : يا بختك جنب البحر على طول
..و ربما من حسن حظه انها لم تسأله أين يعمل فهي كما تقول حافظة المصيف!!
و لكنه بكل تأكيد لو كانت قد سألته لأجاب،فالاجابات كثيرة!!
قرر أن يكتفي بها وحدها و لو لفترة،واستمرا في الكلام يوميا لفترة حتى جاء ذلك اليوم و قالت له : إحنا جايين بلطيم،عاوزة أشوفك !!
لن أقول باغته هذا الطلب فهو كان في قائمة توقعاته وهذه ليست المرة الأولى التي يقابل فيها بنت عرفها من خلال التليفون و لكن رغم ذلك لم يشعر بذلك الشعور الذي شعره كثير المرات من قبل،شعور الإنتصار و الإعتياد فقد أصبح كل هذا بالنسبة له شئ معتاد،فقد شعر بعدم الإرتياح..بل ربما بالقلق..أو الخوف..،فحاول أن يخرج بـأي حجة تجعل هذه المقابلة لا تتم،خاصة أنه ليس محروم و لو أراد الخروج يوميا صباحا و مساءا مع بنت لفعل فالبنات هنا دوما متاحة و ربما كان هذا هو السبب الأساسي في أنه سعى للعمل في المصيف فالعائلات تأتيه من كل أنحاء مصر و منذ يومه الأول خرج مع بنت و لكنه كان لا يغير البنت إلا بعد أسبوع كي لا يحدث إزدواج، و إن كان عادة أغلب الأسر تقضي إسبوع أو عشرة أيام و ترحل،رغم ذلك لم يترك عادة التليفون فقد كانت لها عنده أسباب متعددة..أهمها أنه ينتوى القيام بدراسة اجتماعية في عذا الموضوع تحديدا،مثل دراسته السابقة عن المعاكسات في الشارع!!
و عليه فقد سرد عليها القائمة النموذجية لأسباب عدم التلاقي من عينة ؛
-أنا شكلي وحش خالص!
-خايف بعد المقابلة دي تنتهي صداقتنا، بلاش!
-ممكن حد يشوفنا سوا و ده يعملك مشكلة !!
...لكنها رفضت كل هذا و أبت إلا أن يتقابلا،فهما قد اتفقا انها صداقة و وفقط ،فلما تلك المخاوف اذن؟!
و رغم شكه في هذا التصميم إلا أنه في النهاية وافق ففي كل الأحوال هي مقابلة..و على أرضه و في ساحة قتاله !!
    ...
     و جاء اليوم الموعود..
  و كانت قد وصلت يومها صباحا فقط،و اتصلت به بعد أن وصلت مباشرة تقريبا و كان مازال في وردية عمله و لم يذهب للنوم بعد،و اتفقا على اللقاء في المساء،و مثل الافلام العربي، إتفقا على لون ملابس معين يستطيعا من خلاله التعرف على بعضهما  و في كل الأحوال الموبايل موجود و لنا يضلا طريقهما،و سألها أين سيلتقيا فقالت: 
سيبها بظروفها أنا عارفة المصيف كله،أما نخرج بالليل هأزوغ من ماما و هأتصل بيك أقولك أنا فين و تجيلي،أوك؟
- فرد :
أوك و نص !!
   ....
     إستيقظ على صوت المنبة وكانت الساعة التاسعة و النصف مساءا بالضبط،فهو يضبط الموبايل على الوضع صامت قبل أن ينام فلو تركه رنان لن ينام دقيقة واحدة متواصلة،كان نائم في سكن عبارة عن غرفة بها سريرين و صالة و مطبخ و حمام إعتاد صاحب العمل أن يؤجره لينام به من ينهي ورديته بدلا من تضييع وقته في المواصلات حتى يصل لبيته،هذا السكن في نفس سور فيلا تقع في ميدان الزهراء ،أحد الميادين الشهيرة بمصيف بلطيم،تقريبا أول فيلا قبل صف المحلات و المطاعم و المقاهي التي يزدحم بها المكان.
إستيقظ و نظر في الموبايل فوجد الكثير من المكالمات التي لم يرد عليها،و وجدها قد رنت عليه 37 مرة!!، و قبل أن يتصل هو عليها و جدها هي تتصل فرد عليها( و أثر النوم في صوته) :
مساء الخير
- ردت : مساء الخير،انت كنت لسة نايم؟ أنا رنيت عليك كتير
- فرد : اه..أنا أسف..انا لسة فاضل على ميعاد ورديتي ساعة و نص
- فتسائلت : يعني مش هتعرف تقعد معايا فترة طويلة؟..و لا مش هتيجي أصلاً؟!
- فأجاب : لأ إزاي،هاجي و هأقعد معاكي زي ما تحبي
- فسألت : و الشغل؟
- فرد : ده مش مشكلة،أنا هاتصل باللي معايا و هاروح له براحتي
- هي : أوك، يالا بقى أنا مستنياك ولابسة زي ما قلتلك
- هو : طيب سلام ،أنا جايلك على طول
- هي : إييية؟! انت لسة نايم؟هو أنا قلتلك أنا فين !!
- هو : اه صحيح!! هو انتي فين؟
- هي : في ميدان الزهرة
- هو ( متفاجأ) : فين ؟
- هي( وقد لاحظت ذلك) : إية ؟ في ميدان الزهرة..(بسخرية) ما تعرفهوش ؟!!
- فرد محاولا تغطية أنه تفاجأ : 
لأ طبعا عارفه..دا أنا حافظ كل بلاطة فيه !!
هو انتي فين في الميدان بالظبط ؟
- فأجابت : قاعدة في الممشى قدام استوديو بسمة..و أكملت، عارفة و لا أية؟ و ضحكت ضحكة رقيقة
- فأجاب محاولا السيطرة على أفكاره : اه طبعا عارفه..دقايق و هأكون عندك..سلام !!
   ..ميدان الزهرة قدام استوديو بسمة!!
لو خرج الى الحديقة أمام البيت الذي هو فيه الأن لأستطاع أن يراها بكل وضوح!!
فكر في ذلك برعب و نشوة في آن واحد،و راودته نفسه :
إطلع بص!!
بصة على الماشي مش هتحرق المفاجأة !!
و يرد على نفسه :
طيب أما أخد الدش و أغير هدومي..و بعدين خليها مفاجأة أحسن!!
فتخاطبه نفسه :
يا جبان ! اطلع بص !!
و فعلا لم يقاوم و خرج الى الحديقة التي كانت أغلبها مظلمة ليس بسبب عدم وجود أنوار فالأنوار في كل مكان و لكن لأن بها أشجار عالية تحجب معظم الضوء حتى لتبدو كأنها مظلمة..و هذا أكيد من حظه!!
و من حظه أيضا أن السيدة العجوز مالكة السكن-التي يخرج الجميع بعد المغرب مباشرة و يتركوها وحدها- لم تكن في مكانها المعتاد جالسة على كرسيها المصنوع من جريد النخيل بعد أن قامت بتنجيده بالقطن كي لا يتعب جسمها!
 تسلل و بدأ يسترق النظر،الميدان كحالته دائما مكتظ بالبشر و السيارات و البسكليتات و الدوشة!! دوشة الناس و الباعة و أصحاب الكافيتريات الذين فتح كلا منهم الكاسيت على أعلى صوت محاولة منه أن يكون صاحب الصوت الأعلى في الميدان!!
هي تقول أنها أمام الاستوديو,الاستوديو بالمبنى الذي يليله لا يفصل بينهما إلا شارع باتساع حوالي عشرة أمتار ولكنه من مكانه هذا لا يستطيع أن يرى الأستوديو و لكنه بكل تأكيد يستطيع أن يرى ما يقابله بكل وضوح !
 فدار بعينيه في المكان المحدد الذي لا يفصله عنه الطريق بالإضافة الى المسافة الأخرى التي قد لا تتعدى الثلاثين متر !!
المكان مزدحم و أعداد كثيرة تمشي رائحة و غادية بشكل مستمر كالعادة..ربما هذه يجعل مهمته صعبة،و لكنه بعد قليل من تدقيق النظر لمح فتاة تجلس وحيدة على كرسي حجري من الكراسي المنتشرة بكل مكان بطول الممشى المزروع بالزهور و أشجار و نخيل الزينة،نفس لون الطرحة و لون البلوزة..ربما لأنها جالسة لم يستطع التأكد من لون الجيب و لكنه يبدو اسبانيش و نفس اللون المتفق عليه!!
اذن انها هي !!
ما جعل قلبه سيتوقف هو شكل و استايل و جمال ذلك المخلوق الذي ينتظره هناك!!
 كانت جميلة،فالجمال الفاحش تستطيع عين الخبير رؤيته من على بعد أميال!!
وبخ نفسه أنه جعل هذه الملكة تنتظره كل هذه المدة و الأهم انه وبخ نفسه أكثر لأنه أضاع على نفسه هذه الدقائق بعيدا عنها بدلا من أن يكون معها..بجوارها..و من يدري ما سيلي ذلك!!
   قطع الحديقة جريا بعد أن أجبر نفسه على ذلكن بعد أن راودته أن يبقى و يتأملها قليلا!!
 و ذهب الى الحمام مباشرة و أخذ الدش البارد ليستفيق و أطال في الدش هذه المرة و كأنه يريد ان يستفيق أكثر كي يعيش هذه التجربة مع تلك الجميلة بكل وعيه و إحساسه،خرج من الحمام الى الدولاب مباشرة و تناول البنطلون و القميص المتفق عليه و هو يكاد يظبط نفسه يغني،
طير بينا يا قلبي و ما تقوليش السكة منين،أهي قاعدة هناك مستنية بقالها يومين!!
  تناول البنطلون و لبسه،ثم تناول القميص و قبل أن يفك أزراره رن الموبايل،فوضع القميص على السرير و تناول الموبايل،كانت هي،فرد و بدأ متأسفاً : أنا أسف جدا جدا..ثواني هأكون عندك
- سألته : هو انت فين؟
- هو (بعد تردد) : في الأمل ( ليجعلها لها مفاجأة عندما يخرج من المبنى المقابل لها)
- هي : ياااه..ماشي عموما أنا هأستناك، بس بسرعة لأن ماما رنت عليا كتير
- هو : حاضر ،أنا خلاص لبست و هأجيلك في أول طفطف..سلام
   أغلق الموبايل و تناول القميص من على السرير ليكمل لبسه و يخرج،و لكنه توقف، و مرت بفكرة خاطرة أرعبته و دق لها قلبه بعنف شديد حتى كاد ينفجر،و تساءل :
ترى من قذف بهذه الفكرة في رأسي؟ أشيطان أم ملاك ؟!
 رمى القميص و خلع البنطلون الذي كان قد ارتداه،و ارتدى ألوان مغايرة تماما للمتفق عليها..
 خرج إلى الجنينة ليراقب الجو قليلا،
كانت مازالت جالسة مكانها..يا لصبرها!!
و لكنها كانت تتحدث في الموبايل، أنهت المكالمة، مرت ثوان قليلة قبل أن يقترب منها شابان ضخما الجثة،ربما يعاكسنها..يا ولاد الـــ.. !!
 ..و لكن يبدو أنها تعرفهم فقد قامت و تحدثت معهم كلمات قليلة،انطلقا بعدها لمكان قريب منها كانا قد أشارا لها عليه،لينضما لشبين أخرين يجلسان في نفس المكان..
 دارت بعقله و روحه الآف الخيالات و الفكر و الهواجس و المخاوف و المشترك بينها جميعا هي أنها أفزعته حتى الموت !!
...فالأكيد أن كل هؤلاء جالسون في إنتظار وصوله !!
 ...كاد قلبه يتوقف، بل ربما توقف للحظات فمات قليلا ليستريح ثم عاد بعدها ليبحث عن طريقة يتعامل بها مع هذا الموقف الذي لم يتخيله و لم يخطر له على بال..
 فبنت الخبيثة هذه تريد أن توقعه في فخ و قد أحضرت له حظيرة الثيران هذه لتقرقش جميع عظامة..
 و لكن ماذا فعل هو لتفكر له في هذا المصير القاتل؟ ألم يكن كل شئ برضاها ؟!! ....ياااااه يا بنت الــــــ..!!
  استفاق قليلا من غشوة عنفوان ما أصابه من رعب و ذهول و استغراب،و بدأ يتمتم...بل يصرخ في رتم هيستيري الأسلوب :
أحمدك يا رب..أشكرك يا رب..أحمدك يا رب..أشكرك يا رب !!!
  كاد أن يبكي و لكن يبدو أنه و في غمرة ما هو فيه نسي كيفية البكاء،أو ربما لأنه لم يستطع ان يحدد أمن الخوف يبكي أم من الفرح !!
أكيد ملاك هو من ألقى في دماغي هذه الفكرة و طار...شكرا يا رب..شكرا يا ملاك !!
  وقف قليلا يستجمع شجاعته و يلملم كيانه ليقوى على الحركة،فأغلق الموبايل، وعدل من ملابسه وانطلق خارجا،ليذهب مبكرا ساعة عن ميعاد ورديته،و هو ينظر من بعيد لبعيد،في رعب تخالطه فرحة،إلى صاحبته المنتظرة هناك وهي تنظر لكل طفطف يمر لعلها تلمح ملابسه تنزل من الطفطف فتعلم أنه هو،و برعب فقط نظر تجاة أولئك الثيران الأربعة المتلهفون لقرقشة عظامه !!
....
و لكنه لم يستطع التخلص من تلك الفكرة-التي بكل تاكيد كان مصدرها شيطان هذه المرة!- التي صارعته و كادت تقود خطواته للخلف،فقد شك أنه لو قضى و لو نصف ساعة فقط بصحبة تلك الجميلة و بعدها أكل علقة قاتلة من هؤلاء الثيران الأربع لكان هو الكسبان !
...

الجمعة، يونيو 29، 2012

مصير سيدة أعمال



    كانت سيدة ( الأعمال ) الأولى في القرية،حتى أن الجميع،رجال و نساء و أطفال، كانوا يخشونها أكثر من خشيتهم لحضرة العمدة أو شيخ الغفر،اللذان كانا كلاهما ضمن قائمة من يخشوها!،حتى أن أحدا لم يستطع أن يعترض أو يستنكر فعلتها عندما سمحت لرجل غريب-الأستاذ عبد المتجلي المدرس المغترب بالمدرسة الإبتدائية-بالسكن معها في بيتها مع ابنتها الصغيرة!!،و عندما إستجمع أحد كبار عائلتها شجاعته و طرق بابها ليعلن لها إعتراضه على ما تفعله،فكيف تسمح لرجل غريب بالسكن معها و هي وحدها و زوجها مسافر،و بأنها جعلت كل البلد تأكل وشهم،كان ردها أن صفقت الباب في وجهه بعدما أسمعته من الكلمات ما جعل خدوده تحمر كالعذراء في خدرها،و جعلت عرقه يسيل كأنه قطع نصف صحراء مصر مشيا في عز الظهر !!

     ربما هو حلم أن تكون كل النساء مثل امرأة فرعون تطلب من ربها بيت في الجنة، فهى كانت بجبروت كيد إمرأة العزيز،التي عندما سألت ما جزاء من أراد بأهلك سوء، لم تنتظر الإجابة بل أصدرت الأوامر، إلا أن يسجن أو عذاب أليم !! و قد كانت هذه هي طريقتها مع زوجها الضعيف المسكين، فكانت هي من تسييره و تسوقه إلى حيث تشاء..

    و هل كان بعد كل هذا يستطيع أحد أن ينطق عندما خرجت إبنتها الصغيرة فتحية ذات الخمس سنوات و قالت:
 أنا بأستحمى من بلاص،و أمي و الأستاذ عبد المتجلي بيستحموا من بلاص !!!!
....
و مع هذا كانت لا تخاف حتى من أعتى المشعوذين و كأن لديها حصانة ، فالجميع يتذكر ذاك اليوم الذي أراد فيه معلمي المدرسة أن يختبروا قوة سحر الشيخ إبراهيم، فأخفوا عنه حذاءه- البلغة السوداء- في مكان ما و طلبوا منه أن يعرف أين هي، ربما كان في استطاعته أن يعرف مكانها و يذهب إليها و يشير و يقول هنا ! و يستخرجها،و لكنه أراد أن يريهم قدراته الحقيقية..
  فطلب منهم قلة فخارية ممتلئة عن آخرها بالماء، و سط الذهول أحضروها، فما دخل القلة بالحذاء ؟!
أمسك القلة و وضعها على باطن كفه، ثم تمتم ببعض التعويذات ثم قلب كف يده !! وإذا بالقلة قد التصقت بباطن كفه..و الأعجب أنها لم تسقط منها قطرة ماء رغم أنها مملوءة عن أخرها !!
سار الشيخ إبراهيم ممسكا بالقلة بهذا الشكل بعد أن أخبرهم أن الماء سيسقط من القلة على المكان الذي يوجد به الحذاء، وبالفعل سار و سار من خلفه الجميع حتى وقف في مكان وبدأ الماء يتساقط من القلة، فحفروا و أخرجوا الحذاء !!
..عدل هو من وضع كفه،رفع القلة وشرب ثم إنتعل حذاءه و سار دون أن يلقي عليهم أي كلمة !!
أما هي فلم ترض أبدا بالسكوت حتى وإن كان فعل أضعاف ما فعل،فهتفت من خلفه :
مسيري في يوم أزنقك !! ورايا إللي أجمد منك !!
..تختلف الروايات في تحديد رد فعله، فمنهم من قال أنه استدار و قال لها :
المية تكدب الغطاس !!
و منهم من قال أنه استمر في طريقة و لم يلتفت و لم ينبس ببنت شفة !!
و إن كان الجميع قد أجمعوا أنهم- هي و الشيخ إبراهيم - لم يكن بينهم أبدا ( أعمال ) مشتركة !!
...
ربما كراهية الجميع لها لم تمنعهم من التعامل معها،ليس طبعا عن حب و لكن عن خوف !!
فالفتايات يخدمنها في أي شئ فبيدها أن توقف حالهم و أن تمنع عنهم العرسان بعمل بسيط !! أما الشباب فلم يكن يجروء أحدهم أن يعصي لها أمر فبيدها أن تربطه يوم زفافه و حينها سيدور في كل أقطار الأرض ليبحث عن من يحله و يعيد له رجولته !!
و يقال أن أحدهم-بعدها بسنوات و عندما كبرت إحدي بناتها-قالت له :
ما تحاولش  هتتجوزها يعني هتتجوزها !!
متبوعة بنظراتها الجهنمية و ضحكتها الباردة المخيفة !
يقال أن هذا الشخص لم يبت ليلته في بيته و سافر إلى القاهرة ومنها جهز أوراقه ودار في مجموعة من الدول العربية و لم يعد للقرية إلا بعد أن صادت لإبنتها عريس !!
...
و يقال أيضا أنها ذات يوم أوقفت أبو الأمجاد زعيتر وسألته :
تغالبني يا مجد زي ما بتغالب الإنجليز ؟
و ضحكت ضحكتها الباردة المخيفة !
    كان أبو الأمجاد هذا ليس ضخم الجسم و لكنه كان قوي،كان في أواخر الثلاثينيات، كان مثله مثل كثيرين من أهل القرية يسافر إلى الصعيد و يعمل عند الخواجة،و لكنه عندما إنتقل إلى البحيرة ليعمل هناك كان يهوى مغالبة(مصارعة) الإنجليز، فكان هو وإخوانه عندما يمر عليهم الجنود الإنجليز يهتفوا عليهم و يشيروا لهم بالأيادي أن تعالوا و يقولوا فايت فايت..يا ولاد التيران !!
و يأتي الجنود مهلليين فيبدوا أن منهم من سأم السياسة وأطماع الحكومات و الأشخاص الحاكمين، التي تلقيهم في أماكن ما كان أبدا ليخطر على بالهم أن يكونوا فيها،و تدفنهم في حروب لا يعلمون من أجل ماذا يخوضونها !!
   كان كل فريق يقف صف في مواجهة الفريق الأخر،و كان دوما أبو الأمجاد يبدأ،فينزل هو الساحة وسط الفريقين و ينزل في مقابله جندي إنجليزي،فيهجم أبو الأمجاد على الجندي ويحيطه بذراعيه ثم يقوم برجه ويميل به مرة ناحية اليمين و مرة ناحية اليسار ليعلم أي الجانبين أسهل في إيقاعه ثم يوقعه على الأرض !! و يقوم بالتهليل رفاق أبو الأمجاد..و أيضا الجنود الإنجليز..فيبدو أنهم يشجعون الأقوى حتى لو لم يكن منهم !!
  و يستمر أبو الأمجاد في إيقاعهم واحد بعد الأخر وسط الصيحات و التهليلات من الفريقين،حتى إذا أصابه التعب وكاد أحد الجنود الإنجليز أن يوقعه أرضا نزل لمساعدته أحد رفاقه و ساعتها ينزل أحد الجنود الإنجليز تلقائيا و كلما نزل واحد نزل في مقابله جندي،فهذا هو قانون اللعبة !!..و لكن الجميل أنهم كانوا ينصرف كلا منهم و هو يضحك من كل قلبه !
...
   ربما أسهل شئ على أمثالها هو أذية الأطفال !!
فعندما أصاب ذلك الطفل حالة غريبة جعلته يكره المدرسة و يكره كل شئ ، علموا أنها هي السبب فالأكيد أنها عملت له عمل كي تنتقم من أبيه الذي كان- رغم خوفه أحيانا !- يعارضها !!
و عندما ذهبت به إحدى قريباته العالمات بهذه الأمور الى إحدي المشايخ-و كانت سيدة- لم يرعبه ما رءاه، بل كان يفتح عينيه عن أخرهما ليرى أكثر،فلم يرعبه منظر الشيخة منكوشة الشعر و قد إرتدت جلباب أبيض يشبه الكفن-الذي كان يراه و هو يتلصص من بين الناس عندما يقومون بدفن ميت أثناء إنزاله لقبره-و قد تطاير من القصعة التي أمامها دخان كثيف ملأ الحجرة الضيقة شبه المعتمة التي لا يرى فيها بوضوح إلا حُمرة شعرها الطويل الذي صبغته بالحناء !!
...عندما إجتمع مع رفاقه الصغار في المدرسة مرة أخرى حاول أن يكرر عليهم الكلمات التي سمعها من الشيخة و لكنه لم يستطع،حاول أن يتذكر الكلمات التي كتبتها الشيخة بحبر أحمر كالدم على ورقة بيضاء-و سرقها هو من أمه الطيبة !- و أمرت أن تُنقع في ماء و يستحم بها و سيزول السحر الذي لبسه و يعود لمدرسته مرة أخرى، و لكنه أيضا فشل أن يتذكر الكلمات !
و لكن ما أضحكه هو و زملاءه الصغار حتى الثمالة هو أنه كان قد إستبدل (حجاب) الشيخة بورقة أخرى من تأليفه،و نقعتها أمه في الماء دون أن تلاحظ،ثم في اليوم التالي عندما أخبرها أنه يريد أن يستحم- و ابتهجت أمه لهذا كثيرا !- أعطته سطل الماء و قد لاحظ أن الـ(حجاب) قد ذاب فيه و إنتشر على سطح السطل ، لم يعترض و أخذ السطل و أول شئ فعله بعدما دخل الحمام هو أن قام بسكب السطل بمحتوياته في الحمام !!
و عندما ضحك زملاءه وقالوا له :
بس مش ده هو الـ(حجاب) اللي انت كتبته بإيدك ؟ ما استحمتش بيه ليه ؟
رد عليهم و هو يضحك- مثلما يضحك عندما يرى أمه و هي تنظر إليه و تدعو للشيخة التي حلت سحره !- :
ما هو أنا زي الشيخة !!
عاوز بس جلابية بيضة و أحني شعري !!
...
ربما صغيري هذا لن يفهم أبدا أي شئ من هذا،أو من الكثير الذي قد أضيفه إليه، إذا أجبته على سؤاله عندما سألني و هو ينظر بخوف و إستغراب لتلك العجوزالشمطاء حافية القدمين سوداء الوجة و قد سار من خلفها الأولاد يقذفونها بالحجارة :
هي عاملة كدة لية ؟!
...
....

الخميس، يونيو 28، 2012

سجين الوجدان

    
يقولون عندما يفلس التاجر يبحث في دفاتره القديمة،و أنا صراحة لم أفلس و قد كنت أنتوي أن أنشر كل يوم حكاية خلال مدة التدوين و هي 30 يوم لأستمر في خطة ألف ليلة في 30 يوم،و لكني فقط خشيت أن يصيب الملل من يتابعني فقلت لأغير لشئ أخر،و عليه فقد خطر في بالي أن أبحث في دفاتري القديمة، بحثت عني القديم بما يتخطى العشر سنوات ، و وجدتني ،و سوف أنشر أشياء من كتاباتي القديمة هنا،ربما بدون تعديل أو بإضافة تعديلات بسيطة...و ستكون هذه التدوينات تحت عنوان صفحة من كشكول قديم..و هذه هي أول صفحة، أتمنى ان تنال قبولكم..
....
......
                           سجيــــــن الوجدان

إن يوما نظرت لي أنثـــى
و شعرت بدفء يرجفني
و ظلال من حولي تـــدور
كأني في سماء مُسجَــى
و بحار من حولي تثور
و طيور من فوقــي تحلق
و عيون من تحتي تفــور
و قلبي منشرح المهجة
يحاول من صدري يطير
يدق بعنف و يغني
بلحن عذب الألحان
قصيدة عشق تُسكرني
و تدغدغ روحي و تحملني
لفضاء رحب الأركان
أطواق الزهر تحوطه
و يفوح بعطر الريحان
مملوء بقلوب العشقى
أزواج تسبح بأمان
كون بالحب
و للحب يعيش
يتنفس عبق الوجدان..
============
سلاسل ضعفي تُكبلني
و ظلاله تُغمي عيوني
قبيح المنظر عِفريت
أنيابه تنهش أحشائي
و وقاحة عينه تحرقني
و دناءة روحه تكويني
بقلبي نار لا تُكبت
و بعيني شوق يُضنيني
قيثار الثورة يُطربني
و سلاسل ضعفي تُبكيني
أبحث عن شئ يَشحذني
على الثوران يقويني
فما من قشة تنقذني
و لا غير العجز يلاقيني
و ترن بأذني كلمات
بتراب الذل تُخفيني
يا بائس إخسأ لا تنقاد
ما شأنك أنت بأمور
لا تقوى تدبير لها
أو تسيير
سُهد في الليل و أنات
و بقلبك نار و سعير
ففتاتك حلم يحتضر
أو شفق دام يندثر
يتلاشى و يسير فراغ 
لا تملك إبقاء له أو تغيير
فمناك لا يبني حياة
و هذا قدر و مصير
============
مُكبل أنت للقسوة
و اللامبـــالاة
لا تلين أو تستكيــن
 فلا فرصة للنجـــاة
فأنت قد رضيتُ
 بنصف روح و ربع قلب
و لا يقين
إحيا، إن إستطعت،
إو مت
فحياة بدون تمرد و عشق
هي ظل للمات
و حظيرة للتائهين..
...
=============
..الأربعاء 8 فبراير 2006 
...

الأربعاء، يونيو 27، 2012

مقش في سلاح المقشات




وسط كل ما حوله لا يدري لماذا قفز إلى ذاكرته هذا المشهد حتى غاب عن كل ما حوله و عاش المشهد من جديد...
    
       في ذاك الصباح الشتوي البارد عندما دخل على والدته المطبخ و وجدها تفعل شئ غريب،كانت تقوم بتسخين منشفة قطنية على النار بوضعها فوق غطاء إناء به ماء يغلي، ثم تتأكد من دفئها ثم تضعها مكان المنشفة الأخرى التي تغطي بها جسد بطة صغيرة !!
سألها :
إية ده يا أمه ؟
فأجابت :
يا حول الله يا ابني البطة الصغيرة دهه نسيتها برة امبارح و انا بأبيت البط و تلجت يا عيني تحت الشتي و البرد !!
..ثم أردفت..أنا عاوزة أدفيها شوية يمكن تعتق و ما تموتش..يا حول الله يا رب..و الله يا ابني ما أخدت بالي انها غايبة..يا حول الله يا رب !!
..ثم تقوم بتغير المنشقة التي بردت بالأخرى التي أدفئتها النار..
حينها نظر إلى البطة المسكينة، وأشفق عليها جدا،فقد كانت منكمشة على نفسها و تفتح عينيها بصعوبة بالغة..أراد أن يقوم بتدفئتها مع أمه..كاد يبكي..بل ربما بكى و لكنه كتم بكاءه، فقد خشي أن تراه أمه و ترى رَجُلها الذي سيذهب إلى الجيش قريبا يبكي..

     كثيرا ما سمع سخرية لاذعة من قريبه، ذاك الشخص الذي لم يكمل تعليمه و لكنه كان يعتبر نفسه أعلى منه فهو لم يدخل مدرسة من الأساس، و لكنه-قريبه- كان به بعض الذكاء و الخبث..و كان أيضا محظوظ فقد قضى جيشه،منذ عشر سنوات، كسائق لأحد الرتب العالية في الجيش،و لم يكن هذا هو ما جعله محظوظ كونه لا يقف خدمات أو كونه يأكل من ميس الضباط لأنه تابع للباشا،أو كونه لا يتم تذنيبه بــ ستة إستعد ، بل لأنه كان يقوم بتشغيل سيارة الجيش كسيارة أجرة، ينفق على نفسه مما يخرج له منها، فقد كانت حالته المادية معدمة !!
    كان قريبه هذا دوما يسخر منه و يقول له :
إنت أخرك مِقَش في سلاح المقشات !!
فقد كانت هذه هي التسمية التي يطلقها على سلاح الأمن المركزي، و الذي بالتأكيد سيكون مصير صاحبنا إليه !!، فقد كان دوما يقول له أن هذا هو سلاح الغلابة أمثاله الذين ليس لهم في الطور و لا في الطحين و يتم سوقهم كالأغنام و جمهم و تفريقهم بالعصى !!
كانت هذه الكلمات تثير غضبه..بل كانت حقيقة تشعل في قلبه و روحه نيران لا تطفأ،و كان يعارضه و يقول له أن هذه خدمة للوطن ،و أنه-أي قريبه قريبه- كان يعمل مرماطون عند الرتبة التي كان يعمل سائق له !!، فكان قريبه يضحك ببرود و يقول :
بس برضه أحسن من سلاح المقشات !!
   و رغم معرفته المسبقة أنه سيكون مقش في سلاح المقشات،فهو أُمي، فلاح و ليس معه أي صنعة أو مهنة يمكن ان يمتهنا في الجيش أثناء فترة خدمته، كان يطمح في الكثير..كان يرغب في الحرب !!،ربما شدته وسلبت عقله أفلام الحرب التي كان يشاهدها و هو صغير،و من منا لم تشده و تسلب لبه هذه الأفلام !!،كان يريد أن يكون بطل..كان يريد أن يحرر فلسطين و أن يطرد أمريكا من العراق،و رغم أميته كان يعلم تمام العلم أننا مهما ارتفعنا فنحن مازلنا في الحضيض مادام هذا الخنجر مغروس في كرامتنا،و لن ينزع هذا الخنجر إلا بالحرب، و رغم أنه كان لا يطيق منظر الدم، و كان، حتى في سنه هذه ، لا يستطيع أن يرى أبيه يقوم بذبح فرخة أو بطة، وعندما قال له أبوه أنه يجب أن يأمره بالذبح حتى إن غاب يذبح هو،قال له أنه أبدا لن يقدر على ذلك حتى لو تزوج وأنجب عشرة أطفال !!،و لكن الغريب أنه رغم ذلك كان يتخيل نفسه يسيل دماء الأعداء و يقتلهم و يذبحهم و يحرقهم...و لا يشعر بأي خوف أو شفقة..

    الأن ها هو واقف وسط زملائه في كامل تجهيزه،مرتديا زيه الأسود معتمرا خوذته و في يده اليسرى درع للحماية أما اليمنى فبها شومة من أجل الضرب و تكسير العظام !!
....
ربما إستفاق من سرحانه في وسط هذه الجلبة و الصراخ و ضرب النار و رشاشات المياه،و أصوات مختلطة تحمل كلمات ربما لا يفهما..و ربما يحبها و لكنه لا يستطيع التعبير عن ذلك، الشعب يريد..!!..سلمية..حرية ..!!
..إستفاق على صوت قائده..لم يميز الكلمات جيدا..و لكنه أعتقد انه سمعه يقول :
سلاح المقشات..إستعد !!

الثلاثاء، يونيو 26، 2012

مجذوب السحاب




     كان لا يقبل إلا بتسلق أعلى أفرع تلك الشجرة العتيقة التي تعانق السماء،فيتسلقه و يجلس مادا ذراعيه ليلامس السحاب،أو يتربص بين الأوراق أملاً أن يمسك بعصفورة صغير من تلك العصافير السابحة في زرقة السماء، متنقلة بين أشجار النخيل في خفة و حرية، ود لو استطاع أن يخبرها أنه لا يريد أن يأسرها ليربطها في طرف خيط من أرجلها و يطيرها كما يفعل الأطفال أقرانه، بل يريد أن يصاحبها و يصيرا أصدقاء،تحادثه و يحادثها، يزورها في عشها و تزوره في حجرته، فربما في يوم ما توافق أن تأخذه معها ليسبح مثلها في زرقة السماء، ليعانق السحاب و يضمه بين ذراعيه، و إن أبت سيظلا رغم ذلك أصدقاء، و لكن الأكيد أنها لن ترفض أبدا أن تعلمه الطيران..

    

     إعتاد يوميا،و في قيظ الظهيرة الصيفي الحارق،أن يستلقي على ظهره و وجهه للسماء، فوق الرمال الناعمة  تحت ظل نخلة تداعب سعفاتها من حين لحين نسمات تائهة،كأنها قد أفلحت بالفرار من قيد حرارة الجو وتحاول أن تمحوه ، تحوطه عشرات الألاف من شجر النخيل الذي يملأ هذا المكان الساحر، كان يهرب بعيدا عن كل البشر إلى هذا المكان و يأتي ليمارس حلمه بحرية و بدون أي قيود، يستلقي محدقا بعينيه و بروحه إلى السماء،مجذوبا إلى تلك النتف البيضاء من السحاب التي تناثرت على صفحة السماء فزادت من سحر و جمال زرقتها، و زادت من جنونه و إنجذابه إليها، فيبدأ في صعود السماء، و يبدأ في تسلق السحاب بنفس الطريقة،التي يجيدها تماما،و التي يتسلق بها كيمان الرمل على أطراف هذه الواحة الساحرة ليصل إلى قمتها في ثوان ويقفز و يلف لفة في الهواء ثم يسقط ضاربا الرمال الناعمة بجسده الرقيق،ليغسل بنعومتها و نقاءها جسده و روحه،ثم يكمل طريقه متدحرجا في لذة مبرحة  ليصل لأسفل الكوم بأمان..
  
     لم يكن يريد أن يصل إلى السماء، فقط يريد أن يتسلق السحاب ثم يقفز و يلف لفة  في الهواء، ثم يتدحرج حتى يصل للأسفل..ولم يكن أبداً يخشى السقوط ، فقد كان يتشبث بطرف السحابة بكل قوة ويتسلقها من جديد، و عندما تقترب منها سحابة أخرى، كان يغادرها بقفزة رائعة في الهواء،و تطأ قدميه السحابة الأخرى بسلام وأمان..

الاثنين، يونيو 25، 2012

فهو ليس لديه وقت !!


    كان يمشي مسرعا فهو يريد أن ينهي هذه (المصلحة) في أسرع  وقت و يعود إلى مصالحه و أعماله، فهو ليس لديه وقت ليضيعه ولو أن هذه ( المصلحة) لا يجوز لغيره أن يقوم بها مكانه ما جاء من الأساس، ربما لم يكن يلاحظ أي شئ في الشارع فكل تركيزه كان منصب على أن ينهي ما أتى من أجله، ربما نسى أنه قضى جزءا من حياته في هذا المكان أثناء فترة دراسته، مثلما نسى الكثير ، فقد نسي ملامح الشارع الذي يسكن فيه و نسي أسماء جيرانه و أقاربه و نسي أشكالهم..بل ربما نسي ملامح أمه و أبيه اللذان يسكن معهما في نفس البيت في غمرة إنشغاله و عودته للبيت في أوقات متأخره و خروجه دون أن يشعر به أحد..
     إنه يعلم أين هو المكان فلن يضيع وقته في البحث عنه أو سؤال الناس أين هو، و كلا منهم يصف له وصفة قد تزيد من حيرته و قد تجعله يتوه،فهذا ما قد صارت إليه فكرته عن سؤال الناس بعد أن كان يؤمن بأن (إللي يسأل ما يتوهش) !! فربما فعلا لن يتوه..و لكنه سيضيع وقته !!
    وصل المكان،و حالفه الحظ فقد كان الموظف المقصود ليس لديه أحد، و بش الموظف في وجهه كالمعتاد،و مد له يده في كسل ليتناول أوراقه، نظر فيها وطلب منه البطاقة الشخصية ليتأكد أنه هو صاحل الأوراق، ثم رد إليه البطاقة،ثم نظر في الأوراق مرة أخري ، ثم مدها إليه و البسمة مازالت على شفتيه ، و قال :
الورق تقريبا كامل،عاوزين بس طابعين من البوسطة، موارد و أسرة !!
- طيب ما فيش أي حد بيبعهم هنا ؟
- لا و الله لازم تروح البوسطة !!
ملأ الغضب مجاهل و جهه ،و لكنه كظم غيظه و تناول الورق من الموظف، وأراد أن يفرغ غيظه في سيجارة ،فأكتشف أنه نسي علبة سجائره !!، سأل الموظف :
طيب أقرب بوسطة هنا فين؟
و هنا اضطرته الظروف لأن يسأل !!
- أجابه الموظف :
بص يا سيدي، هتنزل من هنا و تاخد يمينك لغاية أول تقاطع،و بعدين،اللهم صلي على النبي، تيجي معدي الناحية التــ...
قاطعه :
شكرا شكرا ، أنا كدة عرفت المكان !!!
ثم انطلق مسرعا تاركا الموظف و علامات الحيرة تفترش وجهة و هو يقول :
إيه يا اخويا ده ؟ مجنون ده و لا اية ؟!!
دا أنا حتى لسة ما كملتلوش بقية المطلوب !!
    
       نزل من عند الموظف،و لكنه لم يتجه يمينا، كما وصف له الموظف في بداية وصفته التي لم تكتمل، بل إتجه ناحية اليسار!!
توقف بجانب كشك لبيع السجائر،و أخرج من جيب بنطاله رزمة نقود أخرج من وسطها ورقة نقدية فئة عشرون جنيها ثم ناولها للبائع قائلا :
واحدة مارلبورو..
ثم تابع..و ولاعة كمان لو سمحت.
..تناول علبة السجائر والولاعة و الباقي ثم أخرج سيجارة وأشعلها و أنطلق في الاتجاه الأخر،فقد كان يعلم تماما أين يقع مكتب البريد...فقد كان هنا من قبل و لكنه كان قد نسى هذا !!
   رجع للموظف و قد أحضر الطوابع المطلوبة،طبعا بعد أن ذهب و عاد كالرصاصة غير عابئ و لا ملاحظ لأي شئ مما حوله سواء أكان بشر أم جماد،فهل يضيع وقته بالنظر و هو ليس لديه وقت!،كان هناك بعض الأشخاص أمام الموظف، حوالي خمسة أشخاص،فأضطر أن ينتظر دوره، و هذا شئ يكرهه جدا، فهو ليس لديه وقت !!
   إنتظر حتى انتهوا جميعا و قد لاحظ أن أيا منهم أوراقه لم تنتهي فقد كانت أوراق كلا منهم ينقصها شئ فيأخذ التعليمات من الموظف و يخرج لإحضاره، وقف أمام الموظف قائلا :
جبت الطوابع أهه، يار يت بقى تخلصلي الورق بسرعة !!
تناول الموظف الورق منه و بسمته كما هي، مما جعله يعتقد أن هذه ليست بسمة و لكنها إحدي ملامح وجهه ! ، نظر الموظف في الأوراق ثم قال :
جميل !
بش هو لذلك وقال :
يعني كدة كله كامل و تمام ؟!
- قال الموظف :
تقريبا !!
- قال و قد بدأت ملامحه في التعقد :
تقريبا ؟!! ، ناقص ايه تاني ؟!
- رد الموظف :
ناقص ختم مديرية الأمن !
- فرد محاولا كظم غيظه :
طيب و ليه حضرتك ما قلتليش أول مرة لما طلبت الطوابع ؟!
فرد الموظف و قد شعر بالإنتصار فقد حانت لحظة تذكيره بالخطأ الفادح الذي ارتكبه :
لأن حضرتك خرجت، أو الأصح جريت !، قبل ما أكمل لك كلامي !
..وجم  قليلا و قد إمتلأ وجهه بالغضب، فقال له الموظف :
عارف مكان مديرية الأمن ؟
تناول الورق من يد الموظف و هو يخرج مسرعا،فهو ليس لديه وقت، و هو يقول :
عارف.. عارف !!
إنطلق في نفس الإتجاه الذي قطعه في طريقه إلى مكتب البريد في المرة الاولى، فقد كانت مديرية الأمن تبعد شارع واحد عن مكتب البريد، لم يذهب إليها إلا مرة واحدة أثناء إقامته هنا،و لكنه يعرفها جيدا فكثيرا ما مر من أمامها في صحبة أصدقاء دراسته، الذين نسيهم جميعا في غمرة إنشغاله بعمله..فهو ليس لديه وقت !!
و مثل المرة الأولى آثر عدم ركوب مواصلات فمن خلال (تخريمات) وسط الشوارع الجانبية سيصل لوجهته أسرع من استقلاله لميكروباص أو تاكسي،وصل المديرية وقام بختم الورقة و عاد أدراجه في طريقه إلى الموظف، و سار كعادته كالرصاصة لا ينظر لأحد و لا ينظر لشئ،فهو ليس لديه وقت !،في منتصف الطريق شعر بالجوع-خاصة أننا إقتربنا من الظهر- و أكتشف أنه لم يتناول فطوره،فقد نزل بدون فطور لأنه ليس لديه وقت !!
   أصابه الحنين-و لأول مره- تجاة (مطعمكم) و هو المطعم الذي إعتاد هو و زملائه أن يتناولوا فيه معظم وجباتهم،ليس ببعيد يحتاج ( تخريمة) بسيطة من الشارع القادم،و لكنه غضب من نفسه ، أكل اية ؟! فهو ليس لديه وقت !!..و لكنه وبعد حرب طويلة ( خرم ) متخذا طريقه بإتجاه مطعمكم !!
    خرج من المطعم بعد أن دفع 20 جنيه ثمنا لسندويتش شاورمة وسندويتش كبدة، لم يكن يعلم أن الأسعار زادت في مطعمكم بهذا الشكل،و لكنه لم يشعر بما دفع، فالنقود معه كثيرة !!
أخيرا وصل للموظف و لحظه-و أكيد هذا غريب- لم يجد عنده أحد !!
أعطاه الأوراق و قد زينها ختم مديرية الأمن،فنظر الموظف فيها،وكعادته بسمته كما هي، حتى تيقن أنها ليست بسمة ولكنها من ملامح وجهه ! ،و قال له :
باقي بس حاجة صغيرة !!
- فقال في غضب :
تاني ؟!!
- قال الموظف :
لا لا مش هتخرج تاني !!، دا هنا ، هتنزل بس للأستاذ محمود في الدور إللي تحت هيمضي لك هنا؛ و أشار له على مكان في الورقة، و بعدها هتروح لحضرة المدير في نفس الدور، لكن في المكتب اللي بعد الطرقة على اليمين، يمضي هنا،و أشار له على مكان بجوار مكان إمضاء الأستاذ محمود،و بعدها هتيجي لي هنا تاني أختمهالك و تتوكل على الله !!
..إستجمع كل ما به من صبر و برود أعصاب و قام بكل هذا، ثم خرج بعد أنهى (المصلحة) و كأنه قد خرج من جهنم  إلى فساحة الشارع الذي ينطلق فيه كالرصاصة و لا يرى أو ينظر لشئ فيه !!

    قرر أنه لن يمشي بإتجاه اليسار،مثلما جاء منه أول مرة و الذي سيسير فيه ليركب سيارة أجرة ليعود لأعماله،فهو قد ترك سيارته بالمنزل لخوفه من زحمة المواصلات و آثر ركوب سيارة أجرة، قرر أن يمشي بإتجاة اليمين!! وأن يمشي ببطء، و أن ينظر لكل شئ بتمهل !!
   بعد مبنى واحد لاحظ فتاة صغيرة-لا تتعدى سنها  الستة أعوام- جالسة على الرصيف  تبيع المناديل،كان بيدها ثلاتة علب بثلاثة ألوان مختلفة،يبدو أنها قد ( فرشت ) هنا الأن وفقط، فهو لم يرها في مروره،و لكن..و لكنه يتذكر هذه الألوان!! فقد لمحها بطرف عينه عندما مرق من هنا كالرصاصة ثلاثة مرات من قبل !!
    كانت الفتاة تبدو وكأنها هي و الرصيف قطعة واحدة،مرتدية ملابس قديمة رخيصة الثمن، جالسة على قفص مصنوع من جريد النخل و قد وضعت فوقه قطعة من الكرتون كي لا يؤلم جسدها النحيل،و أمامها بضاعتها المكونة من مناديل و فقط على قفص أخر أمامها، كانت إبتسامتها لا تنقطع، ولكنه تأكد انها ابتسامة حقيقة وليست إحدي ملامح و جهها مثل صاحبنا الموظف،كانت مادة يدها بالمناديل و لا تنطق أو تتسول الزبائن مثلما يفعل الكثيرون من الباعة الجائلين الذي يفترشون الشوارع في كل مكان،لا تجبر أحد على الشراء باستعطافه أو بمضايقته،إن أردت فأشتري و إلا فأكمل طريقك بدون مضايقات !!
نظر في نفسه و في هذه الطفلة، كان هو يجمع ثروته بمكاسب وأرباح تقدر بألاف الجنيهات في صفقات إسبوعية أو شهرية، أما تلك الصغيرة فقد كانت تجمع قوت يومها بما يخرج لها من مكسب يقدر بالقروش يوميا ربما ليسد جوعها بأقل الأطعمة جودة و لذة..هو نسى الإبتسام  وهي البسمة لا تفارق شفتيها،هو لم يعلم و لم يذق في يوم من الأيام طعم الرضا، بكل ما يملك من أموال و سبل للراحة،و هي يملأ وجهها الرضا بما يرزقها ربها به من قروش قليلة يوما بيوم،هي تملك كل الوقت لتنظر و تتأمل و تضحك و تعيش، و هو ليس لديه وقت !!
ليس لديه وقت ليحب،و ليس لديه وقت ليتزوج،و ليس لديه وقت لينظر في وجوه الناس و ليس لديه وقت ليزور إخوته البنات الذين قد نسوا شكله،و ليس لديه وقت ليجلس مع أبويه اللذان قد نسى أشكالهما وليس لديه وقت لـــ....ليس لديه وقت ..ليس لديه وقت !!
   
      إقترب منها و في يده قطعة نقدية فئة خمسون جنيها، كان قد أخرجها من بين رزمة النقود التي يمتلأ بها جيبه، نظر إليها وابتسم من قلبه،نظرت و إبتسامتها كالعادة لم تفارق شفتيها،تناول علبة مناديل من يدها ومد إليها يده الأخرى بالخمسين جنية،تناولتها و نظرت فيها وقالت :
طيب ما معاكش فكة؟!!
أصل أنا ما معاييش فكة خالص و ده أول باكو مناديل أبيعه !!،وعادت البسمة لشفتيها..
..فكر هو :
أول باكو مناديل تبيعه من الصبح !!
إبتسم إليها وقال :
 مش مهم !!
فقالت مبتسمة :
هتشتري بالخمسين جنية كلها مناديل ؟
فقال و هو يقترب منها مبتسما و سعيدا جدا :
لأ..هأقعد جنبك بالباقي !!، ينفع ؟!
ثم جلس بجانبها و هي تبتسم و تضحك،و كأنه قد عرف الأن فقط  أن عنده وقت!،و هو أيضا يبتسم و يضحك من قلبه و ينادي و في يده مجموعة من علب المناديل:
مناديــــل... مناديـــل !!

الأحد، يونيو 24، 2012

أحباب الله..


أن يكون هناك طفل لا يشاغب فهذا هو ما أقبل بكل رضا أن أوصفه بالمستحيل !
...
كان يعلم هذا تمام العلم،و لكنه كان على العكس من الكثيرين من الناس لا يعتقد أبدا أن الضرب هو الوسيلة الوحيدة للسيطرة على الأطفال المشاغبين خاصة، و الأطفال جميعهم بوجه عام،ولكن لأنه كان طفل يوما ما-إذ يبدو أن البعض قد نسوا هذه الحقيقة!-فقد كان يعتقد أن التعامل مع الأطفال يجب أن يكون بأسلوب يتخطى مستوى عقولهم بمراحل كي لا يكرروا السؤال، و أن تقول لهم الحقيقة بأعقد الأساليب و بأصعب الكلمات، فلو أنك تدنيت لمستوى فهمهم فالأكيد أن الأمر سيحلو لهم و لن تتخلص من سيل أسئلتهم !!

    كان دوما يقول للجميع في حواراته معهم في الشارع أو على المقهى  أنه سيكون أب مثالي و سيتعلم الجميع منه كيفية التعامل مع أطفالهم و كيفية تربيتهم التربية الصحيحة!!
     كما أنه كان يعتقد -و هذه أحب نظرياته إلى قلبه !-أن ما يخيف الطفل هو أن تقوم بفضحه أمام أقرانه بشكل ما، فلو أنك ساومته أو هددته بشكل لطيف و أسلوب هادئ لصنعت منه خادم مطيع في الأمر الذي تريده منه!!
  
    ربما كانت هذه الفكرة الأخيرة هي ما خطرت على باله عندما رأى ذلك الطفل الذي لا يتخطى سنه الأربع سنوات يشاغب في المسجد و يقوم بأعمال لا تصح من صراخ و جري و ما إلى ذلك،و كعادته مارس هوايته في المشاغبة أثناء الصلاة و كان في الصف الذي خلفه،بعد الصلاة تقدم من الطفل و جلس بجانبه و أمسكه و هو مبتسم ، فأبتسم الطفل فى براءة،فسأله بصوت منخفض :
انت اسمك اية ؟
- فأجاب الولد :
اسمي وليد
 - فسأله :
انت ابن مين يا وليد ؟
- فأجاب الولد :
ابن زكي عبد السميع
..طيب يا ابني دا انت باباك غلبان و راجل محترم مش طالع له لية ؟!!
ثم قال له و مازال صوته منخفض و هادئ و الولد تحت ذراعه اليمنى :
انت عارف هأعمل فيك إية لو شاغبت تاني في المسجد ؟
فسأله الولد وقد زادت البسمة على وجهه :
إية ؟!
فقال له :
هأروحك من هنا من غير هدوم و أخلي الولاد كلهم يتفرجوا عليك !!
   كان يعلم أن هذا التهديد سيأتي بنتيجة فعالة جدا فأخشى ما يخشاه الولد في هذه السن هو أن يراه أقرانه بدون ملابس..و في الشارع !!،وطبعا كان عقله الصغير لن يستطيع أن يخبره أن هذا غير قابل للحدوث و عليه فلم يسمع منه كلمة،
ما تقدرش!!
   فسكت الطفل و وجم و أختفت البسمة من على وجهه فقد أتى التهديد بنتيجة جيدة جدا، و لكنه كي لا يُرعب الطفل أكمل، وأنا مش هأقول لباباك ماشي إإ
 فهز الطفل رأسه بما يعني ماشي !!
 ..و اكمل و ابقى سلم لي عليه !!
  
     من يومها لم يجد هذا الطفل يشاغب،و دوما ينظر له و يبتسم !!
...
   لكن تلك المرة عندما وقف بجانبه أحد الأشخاص معارفه و أوقف بجانبه طفله الصغير الذي يقارب الثلاث سنوات،و كالعادة بدأ الطفل في المشاغبة و كاد يفسد عليهم صلاتهم،بعد الصلاة أمسك الولد و أوقفه أمامه و من خلف الولد أبوه يبتسم، و بدأ يطبق عليه النظرية الفعالة التي وضع قواعدها، فنظر للولد في عينيه وقال له :
انت ما بتصليش في هدوء ليه ؟!
- فقال الولد ماطا في كلماته :
كيييدة !!
-فأستغرب من رد الولد و قال له :
طيب انت عارف هأعمل فيك إيه لو عملت كدة تاني ؟
..لم يستدير الولد كالمعتاد ليطلب العون و المساعدة من أبيه بل رد عليه بنفس اللهجة :
إييييية ؟!
فقال له بلهجة تهديدية و نظرة مخيفة(فالوضع يتطلب هذا هذه المرة !) :
هأقلعك هدومك و أروحك بلبوص !!
...صمت الطفل و وجل،ربما حيرته كلمة بلبوص هذه!!، و لكنه كان ينظر اليه مباشرة في عينيه بنظرة يملأها التحدي !
قال لنفسه أن الطريقة نجحت فيبدو أن الطفل قد خاف بالفعل و سيتبع طريق ذاك الطفل الأخر فهو أصغر منه و يبدو أن خوفه أشد و أكبر، فقد طال صمته للحظات و يبدو انه ليس عنده أي تعقيب أو رد...و لكن.. جاء رد الطفل مذهـــل و مباغــت و سريـــع.... مسح بجميع نظرياته أسفلت الشارع !!
  صفعــة قوية من كفه الرقيقة على خده رنت في أرجاء المكان، تلتها صفعات أشد التهابا و قوة من عيون الموجودين و ضحكاتهم عليه !!
..

السبت، يونيو 23، 2012

اه لو كنت أعرف !!


   مازال الوقت مبكر،لكنه نزل إلى الشارع،فهو يحب مشاهدة الناس غادية و آيبة،رغم أن الشارع في هذه الساعة من الظهيرة كان تقريبا خال، اللهم إلا من عدد قليل من الأطفال الذين تطلق عليهم بعض نساء الشارع عفاريت الضهرية لأنهم لا يحلو لهم اللعب و الصراخ إلا في فترة الظهيرة فيهتكوا ستار الصمت الذي يكتنف المكان، اللهم الا من بعض البيوت التي يسكنها أصحاب المزاج العالي و قد فتحوا التليفزيون على فيلم الظهيرة و قد رفعوا الصوت الى أقصى درجة ليسمعوا كل الشارع معهم !، و يقلقوا من وجد ساعة لينامها، فساعة القيلولة لا تعوض، فلا يستطيع النوم و لا يستطيع صرفهم من تحت نافذته أو شرفته !!
    كان هناك مكان إعتاد على الجلوس فيه هو و أصدقاءه و زملاء دراسته، و هو مساحة مبنية أشبه بالرصيف و لكن بأرتفاع يقارب النصف متر و بطول حوالي خمسة أمتار،تقع تحت منزل أحد الجيران بجوار مجموعة من المحلات، كان يدرس بالصف الأول الثانوي، كان ما تزال فيه من براءة الاطفال الكثير، و كان طبعه هادئ من مشجعي الصوت المنخفض.
     لم يكن المكان خالي،كان هناك شخص،و لكنه شخص لا يعرفه، اقترب منه و ألقى عليه التحية،فرد عليه التحية بدوره،كان هذا الشخص يقترب من الخمسين أو ربما جاوزها بقليل،يرتدي جلباب بلدي بلون رصاصي،و يغطي رأسه بقلنسوة باهتة اللون و فوق منها شال أبيض،بشرته قمحية كغالبية المصريين،و ذقنه طويلة بعض الشئ،و تبدو عليه علامات الطيبة الى حد بعيد..،بادره بالكلام :
واضح إن حضرتك غريب
- فرد عليه :
أه بصرحة أنا مش من هنا
- فقال له :
طيب اتفضل حضرتك أجيبلك غدا..أو أعمل لحضرتك شاي !!
- فرد عليه الرجل :
شكرا يا حبيبي..ثم أكمل، ممكن بس تدلني على طريق أقرب مسجد ؟
..كان هناك مسجد قريب منهم ،و لكنه قال له :
أيوة ،بس لسة بدري على صلاة العصر !
فقال الرجل :
ما فيش مشاكل، و أكمل بنغمة صوت مختلفة،أهو حتى أقعد فيه لغاية ما أشوف حل للمشكلة اللي أنا فيها..
- فسأله :
خير يا حاج، مشكلة اية ؟
- فقال الرجل : مش عاوز أتعبك معايا، واضح انك ابن ناس و محترم
- فقال بحماسة :
قولي بس يمكن أقدر أساعدك
- فقال الرجل :
بصرحة مكسوف منك..لكن..أنا غريب مش من هنا و فلوسي ضاعت مني و ما معاييش فلوس أروح..و قبل أن ينطق هو اكمل الرجل :
و الله يا ابني أنا راجل ظروفي كويسة،و عندي رجالة لكن هو ده اللي حصل
- فقال و قد تأثر بحديثه : 
كلنا ممكن يحصل معانا كدة، و دي حاجة ما تكسفش..ثم اكمل :
و انا بإذن الله هأحلهالك..طالما فلوس هتبقى سهلة
- تأثر الرجل و كاد يبكي و قال :
ربنا يخليك يا أبني و يكرمك و ما يحطكش أبدا في ضيقة..دا هيبقى دين عليا..
فقاطعه :
 لا لا يا حاج لا دين و لا حاجة،و دي حاجة بسيطة، ثم سأله :
هو انت مسافر فين ؟
فأخبره الرجل عن وجهته،و هي محافظة الغربية التي لا تبعد عنهم الكثير، و عن ما يحتاج إليه من نقود، فأنطلق هو إلى البيت بعد أن قال له أن ينتظره، ثم عاد إليه بعد دقائق قليلة و أعطاه مبلغ ضعف المبلغ الذي يحتاجه فلربما شعر بالجوع في الطريق و أراد شراء سندويتش، أو ربما اشتاق لكوب من الشاي..
 قام الرجل و بدأ يقطع طريقة إلى مكان يركب منه ليعود إلى بيته بعد أن أمطره بسيل من الدعاء تتخله بعض الدموع التي تأثر لها هو جدا..و بعد أن مشي الرجل و أختفى في شارع مجاور جلس هو و قد غمرته سعادة غامرة بما فعله، فبالتأكيد هذا خير عظيم،و بالتاكيد هو محظوظ أن الله وضع في طريقه هذا الرجل ليساعده..بغض النظر عن تحويشة الثلاثة أشهر التي أعطاها للرجل!!..و لكنه سعيد..سعيد جدا !!
    جلس قليلا بدوره بعد ذهاب الرجل و ما تزال السعادة و الفخر بما فعله مع هذا الرجل المسكين تملأه، ثم نظر في ساعته و انطلق و كأنه قد كبر عشر سنوات بما فعله، كان قد بقي  على موعد صلاة العصر حوالي 15 دقيقة،فأنطلق كي يصل إلي حي مجاور كي يصلي في مسجده صلاة العصر ثم يقابل زميل له بعد الصلاة ليأخذ منه مذكرة يحتاج إليها..


     سلم الأمام و أنتهت الصلاة و هم بالخروج لولا أن سمع الأمام يتحدث و يقول :
يا أيها الذين أمنوا أنفقوا مما رزقناكم صدق الله العظيم، أخوتي هنا رجل يحتاج للمساعدة فقد سُرقت منه نقوده و يحتاج نقود كي يعود لبيته و أولاده، فمن يستطيع منكم أن يساعده و لو بالقليل فليفعل و سيجزه الله عنه خيرا كثيرا وأضعافا مضاعفة..
ثم أمسك بيد أحد الأشخاص حتى وقف وأشار له على أحد الأركان و قال له:
 اجلس أخي في هذا الركن و سيأتيك أصحاب الخير..
..يا الله !! صُدم صدمة قوية و كأنما ضربته صاعقة !!
لا أصدق !!..انه هو !!
لقد كان هو نفس الشخص الذي أعطاه النقود منذ قليل بجانب منزله !!
لقد كان يكذب إذا !!
..
لم يتعصب و لم يفكر في فضحه و لكنه إبتسم ابتسامة واسعة و قال لنفسه :
اه لو كنت أعرف !!
واضح إنه بيلم أجرة السعودية مش الشرقية !!
ثم قام و أنصرف و ما تزال البسمة لم تفارق شفتيه !!
...

الجمعة، يونيو 22، 2012

لا مجال للحماقة !!


  لست في حاجة لأن يكون لديك جناحين كي تكون قادر على الطيران و الوصول للسماء،ببساطة لأن كل ما قد يجعلك سعيد أو حزين يوجد هنا على الأرض !!
قال لها هذه الجملة فأطرقت لأنها  أستوعبت معناها الكامن..
 ....
     تخيل زميلك ذوق أوي أوي عنك !!
قالت هذه العبارة بعد أن أصلح ما أفسده زميله الذي يصغره بخمس سنوات و الذي يعمل بالوردية النهارية،عندما أتاه مبكرا قبل موعد انتهاء ورديته لأنه كان يريد أن يذهب مبكرا للمنزل ذلك اليوم،و عندما أقترب عرف أن هناك مشكلة و بكلمات قليلة منه و ذوق و لطف كبيرين حل المشكلة في ثوان و أصلح كل شئ فنطقت هي هذه الكلمات ممتنة له و ربما لتحرق دم صاحبنا الأخر الذي ما إن قالت هذه الجملة حتى عقب عليها :
لا لا بصي الراجل ده البنات دايخين وراه و ما بيعبرش حد !! و كتير متكلمين عليه !!
 هذه المرة نطق هو  بعصبية :
محمد انت اتجننت ؟ يالا انت مش عاوز تروح !
ثم التفت للفتاة وقال :
انا أسف جدا و أرجوكي تقبلي أسفي ، هو محمد كدة بيحب الهزار
- ردت بنضج : لا ما هو فعلا واضح..شكرا على ذوقك قالتها و هي تنظر لمحمد الذي كان مبتسما كأن شيئا لم يحدث!!..معذور فمازال مراهق !!
...
في المساء و أثناء وردية عمله جاءت،ربما كانت مثلها مثل الأخريات و هي قادمة،مثل أي زبونة و لكنها عندما نظرت اليه و ابتسمت و قالت مساء الخير تعرف عليها فورا..
 كانت بملابس أخري غير التي رءاها بها أول مرة،منذ ساعات قليلة،كانت في الرابعة و العشرين...أو ربما الخامسة و العشرين رغم ملامحها الطفولية البريئة جدا،ترتدي نظارة طبية،عيناها سوداوان،أنفها دقيق و شفتاها أيضا،ملابسها أنيقة بدون بهرجة،و صوتها رقيق من تلك الاصوات التي إن نطقت بأعلى جهدها بالكاد تستطيع سماعها..
رد عليها : مساء الخير، وتبعها بابتسامة عريضة من تلك الابتسامات الجاهزة التي يوزعها أصحاب العمل على الموظفين ليستقبلوا بها الزبائن أثناء فترة العمل ثم يتركوها عندما يغادروا،كان المكان تقريبا خالي الا منهما رغم انه عادة يكون في مثل هذا الوقت مكتظ بالزبائن،كرر لها أسفه بشأن ما حدث مع محمد فقالت انها قد أتت كي لا يقوم بعمل شئ معه كعقاب أو ما شابه، و أنها غير غاضبة و انه مثل أخيها الصغير،ثم قصت عليه ما حدث و هي مبتسمة فأخبرته أن محمد قد سألها أنتي منين؟! ربما على أساس أنه يريد مصاحبتها،و لكنها ردت عليه؟ انت عندك كام سنة ؟! فقد كانت تستصغره أن يسألها هذا السؤال أو أن يكون في نيته أن يصاحبها !!،و قالت انها لم تكن غاضبة و لكن فقط الحديث تطور و أنه وصل و هو في قمته..
 فرد عليها مبتسما(ابتسامة حقيقية) :
انتي عارفة اننا مصيف و البنات بييجوا عندنا من كل مصر و محمد مراهق و أول سنة يشتغل معانا فنفسه بقى يشوف نفسه !!
فضحتك و قالت :
أكيد !!..بس مش قادر يفرق مين ينفع معاه و مين لأ !!
..لمس فيها نضج كبير عندما تحدث معها هذه الكلمات،و جدها غير متكلفة تماما و مباشرة في كلامها و عفوية..الى جانب أنها رقيقة جدا و دائمة الإبتسام،عرف بنات كثيرات في السنوات الماضية و لكن من بين كل البنات التي رءاها لم يعجبه الا بنتين فقط..و هذه قد تكون الثالثة !!..لم يكن أبدا يشده الجمال و لا ينفر من القبح فكل البنات جميلات و أقلهن جمالا يكفيها أنها تملك جمال نضارة الشباب فكونها شابة هذا يعني أنها جميلة..
أخذت طلبها و همت ان تنصرف وقالت له :
أرجوك ما تزعلش محمد الموضوع خلص و ما فيش حاجة
فرد :
ماشي !..ثم اكمل : بس بشرط !..و قبل أن تسأل هي قال :
تقوليلي انتي منين !!
ثم ابتسم ابتسامة عريضة حقيقية و ضحك،فضحكت هي بدورها فقد كان واضح أنه يمزح ثم و دعته بإبتسامة و انصرفت..
  
     كانت فترة المساء هي فترة الذروة في الشغل حتى أنه لا يستفيق الى نفسه و ينظر في الساعة الا و قد قاربت الثانية أو الثالثة فجرا، و ورديته تستمر حتى التاسعة صباحا،عادة يمر قضاء الوقت ان لم يكن هناك زبائن بسبل كثيرة أسهلها التعرف على بنت قد تقضي ساعات تتحدث معه ان لم يكن هناك زبائن..و بعضهن كن ينتظرن حتى ينصرف الزبائن و يكملوا بعدها الحديثنو كثيرات منهن كن يأتين بالشيبسي و العصائر لزوم القعدة..أو الوقفة !!..ربما فعل هذا في السنوات الماضية و لكنه و من العام الماضي كان قد تغير فيه أشياء كثيرة،فلم يعد يؤمن بنظرية تضييع الوقت مع البنات،فهذا الوقت هو حياته فلماذا يضيعه مع بنت يعلم أنه اسبوع و فقط و ستغادر و كأن شيئا لم يكن،و تمنى لو أن كل البنات يعرفن ذلك و يفهمنه جيدا أيضا..و عليه فقد كان ما يفعله عندما يخلو المكان من الزبائن هو أن يدير الكاسيت على فيروز كي تشدو و تسكره فتساعده على الاندماج في الرواية التي يحتضنها بين كفيه و يقرأ..
   في الليلة التالية أطلت عليه بابتسامتها الرقيقة،و عيونها الضاحكة و أخبرته انها كانت هنا في الصباح بعدما غادر و أنها أصبحت هي و محمد أصدقاء !!
.. كم كانت كلماتها تدل على مقدار نضجها و عقلها الجميل و روحها النقية، كم كانت رائعة و هي تتحدث بصوتها الهامس بكل عفوية و تلقائية بدون أي تمثيل مما تفعله البنات الساذجات و الذي أصبح خبير في فضحة منذ سنوات،طال بينهما الحوار و لم يقطعه إلا دخول أحد الزبائن فأنصرفت هي..
الأن اتضحت الرؤية فقد قرأت معظم إعمال ديستويفسكي !!،كما انها تعشق فيروز و فريد الأطرش..
-فريد الأطرش ؟!!
- أه ..فريد الأطرش !! 
كانت هذه الفتاة من ذلك النوع الذي يحلم بالارتباط به،ذلك النوع الذي لا يعرف كيف يصفه و لكن عندما يراه يقول هذا هو !!ربما يكون قد تمنى لو استطاع الأرتباط الرسمي بها فهذه ليست من النوع الذي تصاحبه بمفهوم الشباب وهو لا يريد ان يضيف سنوات ضائعة الى عمره،و لكنه غير قادر على الارتباط الأن الى جانب أنهما أكيد من محافظتين مختلفتين،فهو حتى الأن لا يعرف من أي مكان هي ..و لا ما هو اسمها حتى !،أما هي فالأكيد أنها تعرف عنه على الأقل اسمه ان لم يكن من محمد فمن خلال أي شخص من الزبائن الذين يعرفونه أو من أحد جيرانه في المحلات المجاورة و هو يدعوه به،و الأكيد أنها أيام قليلة و ترحل..و ربما خلال أقامتها هنا لا تأتي هنا-المحل- مرة أخرى..
  و لكنها جاءت مرات كثيرة حقا، بعضها قد يكون للاستفسار عن أشياء يعتقدها بديهية!..تكررت الحوارات بينهما التي كان لا يقطعها إلا دخول أحد الزبائن..و لكنها بعد يوم انتظرت حتى خرج الزبون،و قد كان هذا تطور لاحظه هو،..كانت جد ساحرة، كان حديثهما لا يخرج عن الحديث في الأشياء العامة مثل الموسيقى أو الادب مثلا،لكنها ذات مرة سألته :
هو انت برضة زي محمد ؟
- فقال : ازاي ؟
- قالت :
يعني انتي منين ؟! و كدة يعني !
- ضحك و قال :
يمكن كان زمان ،دلوقت البنات بتخاف مني ،البنت تحت العشرين بتقولي يا عمو ، فوق العشرين بتقولي حضرتك !!
- ضحكت و قالت :
يمكن بتبالغ !
- رد :
لأ بجد ده، انا نظرتي لحاجات كتير اتغيرت..
و قص عليها اراءه في أشياء كثيرة و كيف كان ينظر لها من عام و كيف يراها الان وأشياء من هذا القبيل....باختصار بعد هذا الحوار اعتقد تماما انه أسرها...و لكن هو ايضا ليس خارج أسرها  الأن !!
  خشي أن يحبها، و لكنه أنضج من أن يفعل ذلك، و لكنه خشي عليها هي الأخرى و لكنه فكر أيضا انها ناضجة و لن ترتكب هذه الحماقة،و تذكر تلك الفتاة التي كان يعرفها لسنوات طفلة و تناديه عمو و في العام الماضي أتت له شابة و قالت له بحبك !! و لكنه استطاع الخروج من هذا دون ان يجرحها و علمها الكثير،..اذن لا مجال للحماقات !
  سار الأمر بينهما كالمعتاد،أحاديث عادية و ان كان استطاع ان يضبط في عينيها نظرات يعرفها جيدا،هو لا يستطيع البحلقة فهو يكره هذا و ربما لو تزوج ما استطاع ان ينظر الى زوجته !!..ربما خجل !! و ربما هي فكرة في رأسه فأشد ما يخيفه هو ان يبدو وقح او ان تُضبط عينيه في محل لا يصح أن يكونا فيه..
 نالت الكثير من الصفحات في دفتر يومياته،كان يكتب شعوره و هو معها و يكتب حواراتهما و مواقفهم الطريفة و يشدد في وصف طريقة كلامها أو نظرتها.. و يشدد أيضا أنه لا مجال للحماقة !!
    نادرون جدا أولئك الذين يستطيعون إجهاض جنين الحب داخلهم قبل أن يولد.
 دون هذه العبارة في دفتر يومياته و هو يعلم تمام العلم معناها..
    
    في تلك الليلة أتت إليه ثماني مرات !!
في كل مرة بسبب غير واضح ،كان يتفهم كل شئ حتى أنه قد كره نفسه!!، كان يستطيع رؤية الكلمات في عينيها،كان يسمع الكلمات و يراها و ينطقها ،و كان يتمثل البرود و اللامبالاة..فلا مجال للحماقة!!، مهما طالت حياته لن ينسى تلك النظرة أبدا، لن ينساها بنظراتها و عيانها شبه الدامعة التي يصرخ الكلام فيها بخرس، يتعذب لينطق او ليفهمه من لديه قلب،نبرة صوتها التى برتها حرقة كتمان ما تود أن تصرخ و تقوله بأعلى صوتها..خلجات شفتيها و حركة يديها..استسلامها عندما نطق و قال :
لست في حاجة لأن يكون لديك جناحين كي تكون قادر على الطيران و الوصول للسماء،ببساطة لأن كل ما قد يجعلك سعيد أو حزين يوجد هنا على الأرض !!
..فلا مجال للأحلام عندما يفرض الواقع سطوته.
.......
في الليلة التالية كان متيقن انها لن تأتي..لن تاتي الى الأبد..فلا مجال للحماقة!!
و لكنه القى بهذه العبارة تحت قدميه عندما أقسم لنفسه أنه لو كان يركب طائرة في السماء و رءاها على الأرض لقفز اليها من السماء طالبا منها ان يكونا معا..يكونا معا بأي شكل يكونا معا للأبد..و لكن عشرة أيام و لا أسم و لا عنوان..و لا مجال للحماقة !!
....

يا غرامي كل شيء ضاع منى فنزعت الحب من قلبي و روحي
و وهبت العمر أوتاري و لحني و تغنيت فداويت جروحي
(يا زهرة في خيالي،فريد الأطرش)
..