الاثنين، سبتمبر 30، 2013

من فنون العربية

تنوعت فنون اللغة العربية ما بين شعر ونثر ولغة(نحو وصرف)، وربما كان الغرض الأساسي من غالبيتها هو المتعة الأدبية(مثل الشعر) ولكن كان بعضها(مثل المعاجم وكتب النحو والصرف) غرضه الأساسي حفظ اللغة ومفرداتها من الإندثار.
ربما أكثر الفنون التي صمدت منذ ميلاد العربية وحتى اليوم، فن الشعر. إذ يعد قرض الشعر من الفنون التي نجت مما أصاب العديد والعديد من الفنون اللغوية الأخرى في العربية، وربما أيضا كان له النصيب الأعظم من الإهتمام والإحترام، حتى أننا نجد أن بعض كتب النحو قد صاغها مؤلفوها في نسق شعري، مثل ألفية إبن مالك وغيرها. ربما الوضع إختلف اليوم قليلا بعد ظهور فنون جديدة، مثل فن القصة وفن الرواية وفن المسرحية، وغيرها من فنون الكتابة.
ومن الفنون التي إندثرت تقريبا من قائمة الفنون النثرية في العربية، فن المقامة. والتي عنيت بجمع مفردات اللغة وغرائبها وحفظها عن طريق صياغتها في نصوص مسلية للقارئ. وقد أختلف علماء اللغة في أصلها وهل تعد عملاً قصصياً أم عملاً لغوياً؟ إذ أن الإعتقاد كان أن مبتكر فن المقامة هو بديع الزمان الهمذاني(353-393هـ) والذي احتذى حذوه الحريري(446-515هـ). وبالتأكيد هما أشهر من نعرفهما في فن المقامة، بل في الواقع لم يوجد غيرهما من كتب في هذا الفن.
ولكن البحث الحديث رجَّح أن بديع الزمان نقل فكرة المقامة عن إبن دريد اللغوي(223-331هـ). وهذا هو ما أثار سؤال: هل المقامة فن قصصي أم فن لغوي؟!
ربما الأستاذ زكي مبارك في كتابه النثر الأدبي رجح أن المقامات عملاً لغوياً لا قصصياً. ولكن البعض لاحقاً فضلوا أن يصنفوه كنوع من الأدب اللغوي أو اللغة الأدبية. أي ذلك النوع الذي يتناول اللغة بأسلوب فني قصصي لا بأسلوب علمي تعليمي مباشر.
ولكني في الحقيقة لست في معرض الحديث عن فن المقامة، إذ أنه يُعد فن معروف للجميع. إذ أنني أظن أن لا أحد في عالمنا إرتاد مدرسة ولم يدرس نص أو أكثر من نصوص مقامات الحريري أو الهمذاني. إذ أنني سأعرض بشكل مختصر وبسيط لفن ربما لا يعرفه إلا من تخصصوا في دراسة اللغة العربية وتعمقوا فيها. وهو فن أطلق عليه أكثر من إسم. إذ دعوه "المُداخل" أو "المُتَداخل" أو "المُسَلسل".
وهو فن قصد إلى تناول المشترك اللفظي، وإلى تدريس وتوريث اللغة ومفرداتها بطريقة لا تسبب مللاً أو سأماً، وهو فن عني بنظم المفردات في تسلسل بديع ينقل القارئ من لفظة إلى أخرى على خيط دقيق من المعنى المشترك يجمع بينها. وذلك بأن تُذكر اللفظة ثم تفسر بلفظة ثانية، وتفسر الثانية بثالثة، والثالثة برابعة، وهكذا حتى ينتهي الفصل، ثم يستأنف الكلام بنفس اللفظة بتفسير جديد أو بكلمة جديدة على نفس النسق. وهكذا حتى تجتمع عدة فصول، قد تطول أو تقصر تبعاً للمادة ومعانيها وتبعاً لقدرة المؤلف على حشد وتجميع المترادفات والمعاني. وكذا فإن المؤلف يلجأ إلى الإستشهاد بالشعر كنوع من التأكيد على دقة المعنى، وكنوع من الترفيه.
وقد عرف تاريخنا ثلاثة من أئمة هذا الفن. وقد كان أول من ألـَّف فيه، إستناداً على ما عثر عليه من مؤلفات وما ورد في الكتب الأخرى من إشارات، هو أبو عمر المطرز البغدادي ( محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم الباوردي261-345هـ. وسمي المطرز لأنه كان يشتغل بتطريز الثياب) صاحب كتاب "المُدَاخل" وكتابه أبواب قصار رواها عن ثعلب (أبو العباس أحمد بن يحي بن زيد الشيباني 200-291هـ) أستاذه، حتى أنه قد لقب بغلام ثعلب، إذ أنه قد صحبه لفترة طويلة.
والمفردات التي تناولها كتاب المُدَاخل كانت تميل إلى البداوة وتتعمق في الغرابة. في حين أننا نجد أن ثاني كتبنا في هذا الفن كانت مفرداته وشواهده الشعرية تجمع مابين الغريب والمستعمل، وهو كتاب "المُسَلسل" لمحمد بن يوسف بن عبدالله التميمي المازني السرقسطي الأندلسي، المتوفى بقرطبة سنة 538 هـ.
وقد أراد في هذا الكتاب-كما ذكر في مقدمته- أن يستوفي ما أهمله المطرز البغدادي في "المُدَاخل" فنوع وأزاد في الألفاظ وفي الشواهد الشعرية.
بقي لنا ثالث هؤلاء الكتاب، وهو أبو الطيب اللغوي، عبد الواحد بن علي أبو الطيب العسكرين المتوفى بحلب سنة 351هـ. وكتابه هو "شجر الدر في تداخل الكلام بالمعاني المختلفة". وقد كان أبو الطيب اللغوي تلميذاً لأبي عمر المطرز البغدادي وعاصره وتوفي بعده بست سنوات. وقد كان من أمهر وأقدر اللغويين والنحوين وله تصانيف عظيمة، وقد ذكر أبو العلاء المعري كتابه هذا(شجر الدر) في رسالة الغفران.
وقد سلك في كتابه هذا مسلك أستاذه، ولكن مفرداته كانت أكثر استساغة وأسهل من مفردات "المُدَاخل"، وإن كانت شواهده الشعرية قد ضمت الكثير من الشعر القديم الغريب.
وهنا أضع نموذج من كتاب "شجر الدر" وهو الذي بين يدي من الثلاثة:
والصَحْن: إصلاح الشَّعْب، والشعب: الرَّفو، والرفو:السكون، والسكون: جمع سَكَن، وهو النار، والنار: الوَسْمُ، قال الشاعر:
أنَخـْن وهُن أغْفالٌ عليه   فقد ترك الصَّلاءُ بهن نارا.
(شجر الدر.ص 81-82)
والصحن: الإحذاء، والإحذاء: أن تهب للرجل نعلاً، والنعل: العَتَب من الأرض، أي الغليظ، والعتب: ظلع البعير، والبعير ما يخرج من الإبل من البعر، قال جرير:
وهل كنت يابن القين مالكاً   بَعيرَ بَعير ٍبَلـْهَ مَهْريةً نُجُبا
(شجر الدر. ص 84)
وكذلك:
والانكفاء: انكباب الإناء، والإنكباب: دنو الصدر من الأرض، والصدر: الرئيس، والرئيس: المصاب في رأسه بسهم، قال الشاعر:
ويَقـْتـُل نفسَه إن لم يَنـَلْها   فحـُقَّ له رئيس أو بعيج
والسهم: القِسْط من الشئ، والقسط: العدل، والعدل: الميل، والميل: الحب، والحب: آنية من الجر، والجر: سفح الجبل، والسفح: الصب، والصب: الدنف، والدنف: العلة، والعلة: السبب. قال الشاعر:

أنخت بها الوجناء من غير علة   لثنتين بين اثنين آت وذاهب!
(شجر الدر. ص 168-169)
.
نجهل من لغتنا الكثير من فنونها وقواعدها وأسرارها، وإن كان يصعب، أو يستحيل!، أن نتعمق في أغوارها، فإن أقله أن نعرف أبسط قواعدها وأن لا نكون خنجر في ظهرها أو مسمار في نعشها.

الاثنين، سبتمبر 23، 2013

خريف

  لا تختلف صباحات بدايات الخريف عن مثيلاتها صباحات نهايات الصيف، فجميعها موجة واحدة لها نفس النغم واللون والملمس.
فالشمس تطل بخجلها المعتاد، الذي يتحول لاحقا ربما لوقاحة حارقة، أو يظل بتأثير الهواء كـَف حانية دافئة تربت على أجسام المارين أسفلها. والسماء كفراش أزرق لا لتـُنيم عليه المخلوقات أجسادها بل لتستظل تحت أمنه ولتلامسه أرواحها لتشعر بالسمو والإنطلاق والحرية.
صباح خريفي ساكن وصامت إلا من زقزقة عصفور رقيق أو حفيف وريقات الشجر عندما تحتك ببعضها البعض في غزل صريح هي ليست سببه وإن كانت فاعلته. إلا من فتات حديث يترامى من بعيد يكاد صوته يلامس حد الخرس، لأطفال صغار ربما كانوا في طريقهم إلى مدارسهم أو عمال في طريقهم إلى أعمالهم أو باعة جائلون ينادون على بضائعهم.
صباح خريفي نسيمي لطيف، تعَبَّق جوه بعطور شتى وروائح مختلفة، حملت بعض خيوطه رحيق الريحان والياسمين، بينما تشبع خيط أخر برائحة النجيل والعشب الأخضر، وربما أخر قد حمل رائحة الجير المنبعثة من الحوائط الخارجية التي أعيتها الرطوبة، وأخر فاض برائحة البرتقال واليوسفي والليمون. كل هذا مغلفا بمحيط أخضر وأصفر وأحمر، بسيمفونية ألوان وعطور. فقد إكتسى الجو، رائحة ومنظراً، بما يحيطه من أشجار وورود، كانت جميعها، للأسف، في طريقها لمجابهة الخريف الأتي متسللا في نعومة ورقة ولطافة تـُضعفنا عن القيام بطرده، فلا نجد أمامنا من سبيل إلا الترحيب به!


  عندما وصلت وجيدة إلى كرسيها الوثير زي السنادات المصنوع من الخشب المزخرف برسوم الأزهار والطيور، وحاشيته البنية الباهتة الممتلئة بالقش، عدلت من وضعه بجانب الكرسي الأخر الذي يمثاله، فقد كانا ليسا في موضعهما الصباحي المعتاد بعد أن غيرنا مكانهما خلال جلستنا ليلة أمس، ليواجها شمس البكور المشرقة المبتسمة، والتي لم تقطع بعد إلا خطوات قليلة مغادرة المغارة التي منعتها الظهور طوال الليل وجاء العفو لها الأن لتقطع رحلتها. جلست، بجسمها الذي فشلت السمنة أن تغزوه فبعثت الإمتلاء بدلا منها، على كرسيها ببطء فقد كانت تعاني من الروماتيزم وتشعر بألآم في ظهرها عند الإنحاء وعند الجلوس من حالة الوقوف. جلست وأستراحت على كرسيها ثم ألتفتت خلفها ناظرة إلى داخل الحجرة من خلال باب الشرفة الذي كان الكرسيان موضوعان في مواجهته، ولم تطول لفتتها، إذ أن الوقت كان قد حان لظهوري بعد أن راقبتها خلال الدقائق الماضية، فقد كنا نتسابق أينا سيخرج إلى الشرفة قبل الأخر وقد قررت أن هذا هو يوم نصرها!
خطوت نحوها ماشياً ببطء متوكأ على عكازي الخشبي، أو ربما متظاهراً بعدم الإتكاء عليه، فصراحة رغم شعوري بألم في مفاصل رجلي إلا أنني لا أحاول مطلقاً أن أستند جدياً إلى هذا العكاز، بل أنا أتحاشى الإتكاء عليه، فأنا أريد أن أقنع نفسي أنني قادر على السير بدون عكاز، وأنني أحمله فقط لحالات الطوارئ!
ولكن على كل الأحوال أنا لا أقطع ألآف الكيلومترات سيراً على قدمي يوميا، فما هي إلا خطوات قليلة تنقلني ما بين غرفة النوم والصالة والحمام والشرفة. الشرفة مكان طلتنا على الدنيا، والتي نقضي بها أغلب نهارنا صامتان ساكنان أحيانا كتماثيل المعابد اليونانية، حتى أنه لو نظر إلينا من بعيد إنسان ذو حس فني فإنه سيرانا، أنا ووجيدة والكراسي والشرفة وما على حائطها من أحواض ورد وشجرة ست الحسن التي تغلفها من الجانبين، سيرانا كلوحة عتيقة من عصر النهضة رسمها رسام مغمور!

  وصلت إلى كرسي بجوار كرسي وجيدة وجلست، ثم نظرت إليها بربع عين مُدعياً اللامبالاة وكأنها لم تسبقني هذا اليوم، فجلست صامتاً، ولكني كنت أعلم أن وجيدة لن تصمت عن البوح بالفخر بما جنت من نصر عليّ اليوم، فوجدتها قد أدرات وجهها ناحيتي ونظرت لثوان وهي صامتة، أهملت ذلك وكأنني لم ألاحظ، فردت وجهها في إستقامته ثانية، ولكني كنت أعلم أنها ستعيد الكـَرّة هذه المرة ولكن من دون الصمت، فصمتها هذا سيتحول لكلمات ساخرة تحاول بها إغاظتي!
وبالفعل إلتفتت ثانية ثم تنهدت بصوت مسموع، ربما ليفيقني من شرودي المزيف، علمت حينها أنني لو إستمريت في التجاهل فستكون حيلة مكشوفة، وعليه فقد إستدرت بوجهي ناحيتها وأنا أتساءل في براءة وسماجة:
أهناك شئ؟ لماذا تتنهدين بصوت عال؟!
نظرت لي شزراً بعينيها السوداوين اللتين مازالتا تحتفظان ببريقهما في غضب محبب جداً لي ثم أدارت وجهها لتعيده في إستقامته مطبقة جفنها الأيل للتهدل على عينيها للحظة، قبل أن تهمهم بصوت خفيض حانق:
هكذا أنتم أيها الرجال لا تلتفتون إلا لما يسبب لكم الفخر وما يجلب لكم الثناء أما ما قد يسبب لكم الإحراج أو ما قد ياتي لكم باللوم، حتى وإن كان عدلاً وحقاً، فإنكم بكل بساطة تتجاهلونه وكأنه لم يوجد ولم يكون!
كنت في قمة سعادتي وأنا أسمعها وأشاهدها وهي تنطق بهذه الكلمات الغاضبة، فكم إستمتعت بمثل هذا المشهد لعشرات السنوات، ومازلت أعد نفسي من المحظوظين لأنني لم أحرم منه.
فأبتسمت، وقلت لها بإستخاف مقصود:
مرة في شهر؟ أظنه إحراج عظيم لكِ أن تحسب!
وبكل تأكيد كنت أعلم أن جملتي ستأتي بثمارها، إذ أن وجيدة قد إستدارت في عصبية، حتى أنني قد خشيت أن يؤلمها ظهرها من هذه الإستدارة المفاجئة، وقالت في حدة:
الفكرة ليست في عدد المرات، ولكن في حقيقة إحتمالية وسهولة الفوز عليك!
سيظل الرجال ضيقي الأفق مهما سنحت لهم فرص التـَعَلم من النساء!
هنا أخذتني الذاكرة عشرات السنوات للماضي، لأشاهد وأستمع لتلك الفيلسوفة الرقيقة التي طالما إدعت الشراسة والغلظة، التي أغرمت بها من جملتها الأولي في حواري معها، والتي من المرة الأولى التي إلتقت فيها عينانا أكتشفت أن تنكرها في زي أسد عنيف شرس تفضحه نظرة للعين التي تُصَرِّح بمنتهى الوضوح:
أنا غزال رقيق لا أسد كما أدعي!
تلك الفيلسوفة مازالت هي هي، ومازلت أراها وأشعرها كما كنت أراها واشعرها منذ يومنا الأول، لم يتغير شئ سوى مقدار حبي لها، فهو لم يتوقف عن الزيادة، ولن يتوقف حتى يتوقف قلبي عن الحياة.
  إبتسمت إبتسامة عريضة في وجهها، ومددت ذراعي لأربت على ذراعها وأنا أقول:
صديقني هناك رجال كثيرون قد تعلموا من النساء فالحقيقة لا يمكن إنكارها وحتى إن انكرناها فهذا لا ينفي أبداً وجودها، فأنا مثلاً، ودعيني أعترف، قد تعلمت منكِ الكثير..
إلتفتت أكثر لتواجه وجهي بالكامل، وأتسعت نظرة عيناها وبدا عليها الإستغراب والإهتمام في آن واحد.
فأستكملت أنا:
نعم لقد تعلمت منكِ الكثير، فأنا مثلا قد تعلمت منكِ قلي البيض وتقطيف الملوخية...كنت مستمراً في كلامي مُدعياً الجدية، إلا أن وجدت أن نظراتها قد إمتلأت غضباً، الغضب الذي أحبه، وأزاحت كفي عن ذراعها بعنف وأدارت وجهها، وهي تقول بغضب:
وكأننا في العشرين!
ألا تلاحظ هذا اللون الأبيض الذي كسى شعرك؟!
هل أتي لك بمرآة لعلك ترى؟!
إبتسمت أنا وقلت:
وهل قيل أنها كبيرة من الكبائر أن يمزح من قارب السبعين؟!
لم تجيب على سؤالي ودمدمت بكلمات مبهمة لم أفهمها، فعلمت أننا يجب أن نأخذ فترة صمت للراحة قبل المعركة القادمة!

  بدأنا وحيدان في هذا البيت وأنتهي بنا الحال إلى الرجوع وحيدان كما بدأنا، فبعد أن كان هذا البيت لا يهدأ لحظة بالليل أو النهار، بعد أن كان يذرعة جيئة وذهاباً طفلان ذكور وبنت لا يتوقفون عن فتح الأبواب وإغلاقها ولا عن فتح التلفاز، والعراك معهم ليقوموا بفروضهم المدرسية وليذاكروا لا ينتهي، وبعد أن إضطرت وجيدة للإستقالة للتفرغ لتربية أبنائنا والقيام بالأعمال المنزلية التي كثرت جداً عليها، وبعد أن كبر هؤلاء الأطفال وصاروا شباباً، وبعد أن إنتهى وقت الإجتماع وحان وقت الفراق المحتوم، بعد أن كانوا لا يغيبون عن أعيننا للحظات، صارت لا تراهم أعيننا إلا لحظات، على فترات طويلة ربما من طولها قد تغيب ملامحهم عنا.
فتزوجت زينب، التي أعتنقت حُب الفلسفة عن والدتها فدرست الفلسفة وتعمل حالياً مدرسة لها بإحدى المدارس الثانوية كما كانت أمها، وذهبت مع زوجها إلى محافظة أخرى لإرتباط عمله بتواجده هناك حتى إستقروا.
أما سمير فكونه الإبن الأكبر فقد كان أول من غادرنا، وقد جف حلق وجيدة مع محمد إبننا الأصغر ليقيم معنا ويتزوج في هذا البيت فهو كبير ويسع الجميع، وهو بيت مستقل بحديقة يحوطها سور كقصور الأمراء، وهو بعيد عن قلب المدينة الصاخب الملوث، ويمكن ترميمه وإعادة طلاءه بما يناسب العصر. ولكنه أبىَ إلا أن يعيش حياته مستقلاً في بيت خاص به.
ورغم كل ذلك فربما يجب أن نكون، أنا ووجيدة، سعداء، فأبناؤنا يعيشون في خير وأحفادنا كذلك. ولكن ما يؤرق فكر وجيدة دوما، وأن كانت لا تعبر عنه باللسان ولكني أسمعه طوال فترات صمتها وأراه طوال فترات سباحتها في بحر خيالها، هو فكرة كيف أن المرأ يلد ويرضع ويسهر ويكبر أولاده ويترك عمله من أجلهم ليتركوه بعدها ويضنوا عليه ربما حتى بمكالمة هاتفية لا تتخطى ثوان معدودة؟!
ورغم أنها كانت مدرسة فلسفة، وهذه مسألة سهل ويسير جداً البت فيها، إلا أنها صنعت منها معضلة تتساوى مع معضلة، هل خلقت البيضة أولاً أم الفرخة؟!
وأبت دوما أن تعترف بأن هذه هي سنة الحياة وبأن الصغير سيكبر، والكبير سيشيخ ويهرم، والقريب لن يظل طوال الحياة بين أحضاننا رغم ما يلاقي من حب وحنان، فتوقه للحرية والإستقلالية يفوز في النهاية.
كنت أعلم أن ربما فكرها الأن ربما مشغول في إيجاد حل لهذه المعضلة، لذلك فقد علمت أنه وقت كسر الهدنة والبدء في حرب جديدة!
دوى صوت بوق سيارة بصوت عال، فوجدتها فرصة لبدء الحديث فقلت في إستياء مصطنع:
قلة أدب!
ألا يعلم هذا السائق الوقح أنه ربما بعض الأشخاص مرضى لا يريدون إزعاج!
ثم غيرت النبرة وقلت في رقة:
وربما بعض الأشخاص قد جلسوا في جلسة رومانسية فجاء صوت بوق سيارته أفسد عليهم جلستهم!
إلتفتت وجيدة بعد هذه الجملة الأخيرة وقد بدا التحفز في عينيها، فقلت مغيراً الحديث وأنا أشير إلى الأشجار والأزهار التي تملأ حديقتنا:
أليست هذه جنة؟!
فقالت في فتور وسخرية:
لقد بدأ الخريف، وقريباً تجد جنتك خاوية على عروشها!
فقلت في تحد:
الخريف؟ وماذا به الخريف؟!
الخريف لا يُفقد الأشجار أياً من قيمتها، بل هو يظهر قوتها وصمودها وجمالها!
بل دعيني أقول، وكنت أعلم أن هذه الجملة ستثيرها لتبدأ حديث ناري، أنني أحب الخريف دوناً عن كل فصول العام، بل دعيني أقول أنني أعشقه!
قالت وجيدة في حدة وتحدٍ:
وأنا أكره الخريف فهو يحرم الأشجار من أوراقها، ويحرم الورود من أزهارها، بل هو يشوه الطبيعة بأكملها ويتركها تعاني من الخواء والقبح.
فبعد الجمال والرونق الذي تختال به الأشجار والورود، يأتيها الخريف فيسلبها كل شئ ويتركها عارية من الحسن وربما من الحياة.
ولكني كنت أعلم ما يدور في ذهن وجيدة، فربما هي تراهما في خريف عمرهما، قد جاءت الشيخوخة بخريفها وسلبتهما الشباب بجماله وعنفوانه وتركتهما خاويان من الحسن ومن الحياة.
ولكنه ما كنت لأستسلم وأدع هذا الفكرة تسيطر على فكرها وتنضح على أفعالها وتفاعلها معي ومع ما حولها ومع الحياة من حولها، فعدلت من كرسي قليلا لأجعله تقريبا في مواجهتها بعد أن كان بجانبها، ثم بدأت أوجه كلامي إليها:
وهل لولا الخريف كانت الأشجار قد إرتدت ثوب جديد؟
فهو يزيل عنها قديمها ويحممها بهوائه ونسماته ولسعات برده اللذيذة، حتى إذا ما جاءها الشتاء كانت له مستعدة، فتصمد تحت مياه أمطاره وثلوجه، بل ترقص طرباً منتشية، حتى إذا ما إنقضى الشتاء تسلمها الربيع جاهزة لثوب الجمال الجديد.
فبعض الجمال يستحق بجدارة أن يُشوّه، ليبعث أجمل مما كان.
سهمت وجيدة كأن الكلام لم يروق لها، وفي الحقيقة لن يروق لها طالما خالف إعتقادها. ولكن هل تراني أستسلم أما صلابتها بعد هذا العمر الطويل وأنا أعلم أنها ستقتنع حتى لو أظهرت عكس ذلك؟
فخطرت لي فكرة وتحمست لها، فسألتها:
أتذكرين ذلك الفستان الحريري الأخضر الذي إشتريته لك يوم خطوبتنا لترتديه؟
نظرت لي بإستغراب وإنتظرت قليلاً قبل أن تجيب:
وماذا ذكرك بهذا الفستان الذي لا أذكره أصلاً!
كانت عيناها تقول أنها تذكرت الفستان جيداً وتذكرت ذلك اليوم الذي كان هو يوم حفل خطبتنا عندما خرجنا سوياً لشراء فستان جديد لها، بل ربما مازالت يدها تشعر بملمس يدي التي كانت تمسكها ونحن سائران. عندما كنا شابان فتيان بأيادٍ وردية رقيقة، لا كما نحن الأن بأيادٍ معروقة مرتعشة، عندما كنا مفعمان بالحيوية والحياة نسابق الرياح وتكاد أقدامنا لا تلامس الأرض من رشاقة خطواتنا، لا كما نحن الأن مقعدان على كرسيين من القش كي لا تتأذي عظامنا ويُعد فتحاً عظيما إن قدرنا على السير من غرفة النوم حتى الشرفة الخفيضة المطلة على الحديقة. ولإعتقادها أنني أدبر لها فخ لأنتصر عليها قررت أن إدعاء النسيان أفضل وسيلة للدفاع!
- هذا لا يضر بشئ سواء أكنت تذكرين أو لا تذكرين!
عقبت على كلماتها بسخرية لأشعرها بأن هجومها قد خاب، ثم أردفت:
- فالسؤال الأهم هو، هل ظللتي مرتدية هذا الفستان الجميل، والذي أعجبك جداً، طوال الأسبوع أم أنك قد خلعتيه ليتم غسله وتنظيفه لترتديه من جديد، بل ربما لتجدي أجمل منه؟
شعرت بأن حيلها الدفاعية والهجومية تتكسر أمام منطقية سؤالي، فوضعت كف فوق كف ولوت فمها قليلا قبل أن تسألني:
المهم! ماذا تريد أن تقول بوضوح؟!
أريد أن أقول أن الشجرة عندما يأتيها الخريف ويذهب عنها جمالها، لا تيأس ولا تنتحر محاولة أن تخلع جذورها من باطن الأرض أو أن تستلسم للرياح لتكسر أفرعها وتتركها مكسحة معاقة. بل تشبث جذورها في الأرض وتغوص بها أعمق في باطنها، وتقاوم رياح الخريف والشتاء بل وتستمتع بها، فهي تعلم أن حالها الأن مرحلة يجب أن تعيشها لا مرحلة يجب أن تخجل منها أو أن تنتحر إستباقاً للموت.
كانت وجيدة تسمعني بهدوء، ولم يبدو على وجهها إلا سيماء اللامبالاة، مما جعلني أوقن أنها منتبهة جداً لكلامي، وأن كلامي قد أثرَّ فيها. فهذه هي وجيدة التي أعرفها طوال أربعين عاماً!
   إنتظرتها لتعقب على كلامي ولكنها لم تفعل، فعدلت من كرسي وقربته من كرسيها حتى ألصقته به، ومددت كف يدي إلى كفها وعانقته فردت في صمت وسلام عناقه، فعرفت أنها فهمت كل شئ.
وساد الصمت قليلا قبل أن تمزق ستارته يمامتان على أحد فروع شجرة التوت. غير العليم بطباع اليمام سيقول أنها يتقاتلان، بينما هما في الواقع يتغازلان. ببساطة مثلنا تماماً.
..

الاثنين، سبتمبر 16، 2013

ولية أخاف؟!

شايفك يا بلدي والفؤاد محسور
لكن خايناني المشاعر والسطور
شايفك سارحة، هيمانة وحافية
في شوارعك وقراكي والكفور
نسمة يمكن باينة قتلانة ودايخة
لكن نـَفـَسها باقي للقيامة والنشور
بـِكر حَبَلِت ألف مرة وألف مرة
وجه وليدها مرة سِقِط وألف بور
..
ولية أخاف وانتي شمسي والبدور
في كل ضلمة تلحقيني بألف نور
وإن عيوني تاه طريقها للحقيقة
تبقي عِوني في إختياري للأمور
زهـْرة ما فارقت يوم ربيعها
هامة مرفوعة يتوجها الغـرور
بُـق مَيـّة للعطـَاشى الغلبانين
وأرق بلسم لجراحهم والصدور
..
ولية أخاف ويهجرني السرور
أو أنتحب والدموع زي البحور
إزاي وأنا عارفك ست نفسك
ومهما يحصل دي قشــور
شفنا منها كتير وياما
نفخة منك بعتتها القبور
أما ذاتـك ما تطولها أي طعنة
وانتي ليكي ألف سـور
وألف ســــــور
وألف ســور.

..

الخميس، سبتمبر 12، 2013

إنتي

بياعين لكل شئ فى الحياة
مذوقين الكلام فاكرينه يغريكي
بيوصفولك ألف طريق للنجاة
ومش بعيد فيها الهلاك ليكي
طالبين لكل شئ يحلالهم
ويدعوا إنه أعز أمانيكي
عطاشى وقلبهم أرض خراب
ولا قدر واحد يرتوي بمعانيكي
..
راح فين مين قال زمـــان
هأعمَّر كل الخراب واعلـّيكي
وهأصون ترابك والهوا الطاير
وأبوس سماكي وغيطانك وحواريكي
قوليلي هو خلفك طلع خايب
ولا العقوق رد جميلهم ليكي
طز في سواعد بتتأمر وتتكبر
رازق الخلايق بجوده يغنيكي
..
مين يدعــي إنه كل النــاس
وإنه تحـــت أمر معــاليكي
كداب ما أختشـــى من ربــه
مفضوح بما يفعـــــله فيكــي
نفــاقه غاية وكمــان وسيــلة
وخداعه فاكره بسهولة يطويكي
وفضيحته إنتي بالطيبة ستراها
ضناكي-قلتي- وما هان عليكي
..
أنا الأدهم وأنا الزناتي خليفة
أنا كل قصة أوغنوة تسليكي
أنا العاشق اللي عشقه متداري
من غيري يقدر بحبه يرويكي
أنا فوق ربوعك واقف ديدبان
ومحوط بالوريد حدود أراضيكي
أنا التغريــدة قالهــا الطيـــر
ورددها وكل مُناه يرضيكي
..
أنا المؤمن بألوانك وأشجارك
أنا التابع لنظراتك وخطاويكي
أنا الغلبان وأنا اللي طينك بناه
وانا اللي قلبه نبضه حكاويكي
أنا إللي صدره كان مخنوق
وكان دواه أنفاس عصاريكي
إديني إيدك يا غالية وقولي أه
بايع أنا كل حيــاتي وشاريكي.
..
أنا اللــي زنـده كـان صـــامد
ولا إستسلم لأغلال أعـاديكي
أنا اللي جبهتــــه برتها النار
ولا ركعت وقال بالباقي أفديكي
أنا اللي دمــــه كان فرحـــان
لما سال يجري في قناويكي
وقال موتة بألف حيـــاة
فين الحياة في شئ يخزيكي؟
..

الاثنين، سبتمبر 09، 2013

الضحك من غير سبب

إعتدنا قديماً أن نقول،الضحك من غير سبب قلة أدب، الآن الضحك من غير سبب هو فرصتنا الوحيدة لنضحك!
..
نعم، فلتضحك بدون سبب فربما لو انتظرت سبباً لتضحك ما جاء هذا السبب وما ضحكت أبداً.
ربما الحياة من حولنا لا تتغير بقدر ما نتغير نحن، وربما نحن في الأساس لا نتغير بقدر ما نحن فقط نقوم بعمليات إستبدال لمُسْتـَقـْبـِلات أرواحنا التي تستقبل وتتعامل مع ما نمر به وما نتعامل معه في حياتنا من أشياء وأشخاص، وما تستهلكه من أحاسيس ومشاعر، والتي على إثرها تتغير مُخـْرَجَاتـُنا من سلوكيات وأفعال مع أنفسنا ومع غيرنا.
فنحن في كل مرحلة من مراحل حياتنا نستخدم ما بداخلنا من مخزونات فكرية وعقلية وعاطفية، ربما صغاراً نستهلك الكثير من سذاجتنا وبرائتنا ونقاءنا، فنتحول كباراً لإستخدام ذكاءنا وخبثنا وتلوننا، فنجد الأشياء قد تغيرت، والحقيقة أن الأشياء كما هي ولكننا نحن من بدأنا نتعامل معها بشكل مختلف.
من بدأنا ننظر لها من زاوية مختلفة بنفس العينين ولكن بنظر ورؤية مختلفة منبعثة من نبع ما اعتنقته روحنا الأن وما تبناه عقلنا كمنهج تفكير جديد.
من بدأنا نخلق لها سبباً يُقـَبّح حُسْنـَها لنـَمَلـَها مُبرأين من الذنوب، أو إدعاءاً ليُجَمـّل قـُبْحَها فنتشبث بها بلا عار أو خطيئة.
حتى أن الأشياء ذاتها ربما قد تكرهنا من فرط ما أهناها وقللنا من شأنها أو لوثنا سمعتها كوسيلة هجوم أو دفاع أو هروب.
قد لا يسعدنا ما كان يسعدنا وقد لا يُريحنا ما كان يريحنا وقد لا يحزننا ما كان يحزننا، فقد صنعنا للأشياء طعم إدعيناه لا يمت لها بصلة وقلنا عليه هذا هو طعمها، رغم أننا ربما قديماً كنا قد ذقنا لها طعماً مختلفاً تماماً.
ربما هو فقدان القدرة على التمييز نتيجة مساواتنا بين جميع الأشياء إتباعاً لفلسفة أن زمن التعجب والإندهاش قد إنتهى والحكمة هي توقع وتقبل كل شئ، سئ كان أم حسن، بلا عجب أو إرتياح، بلا ترحاب وإحتفاء أو برود وذم.
..

الجمعة، سبتمبر 06، 2013

حقيقة

لسَّانا بندور على طـُروف الخيط
وغيرنا غزل مليون جلابية وشال


ولسَّانا سنين بنبي في أول حيط
وغيرنا عُمْرانه قارب سماه وطال


أهل بلاغة والعقل منـَّا حـَويط
وهما الأغبيا علم وصناعة ومال


والراسِي فينا وقت الهَيَافة يزٍيط
كأنه ما كان قال بلاها لِعب عيال

متفرقة خطاوينا والبحر بينَّا غويط
أما القلوب فما فيش ما بينها وصال

وإيه تنتظر م إللي مِشـِي تخبيط
ولا في يوم فكر يعـْدِل إللي مَال

بالعقل يا خِلي ودرَاعك لو نشيط
يصْبَح يَسير إللي إفـْتكرته مُحال

بلقمة تقسمها مع كل فم بسيط
ببسمة محبوبة تملا الليالي آمال

بطبطبة روحك على اللي همه محيط
وبسندة من كتفك للي حمله إتقال

لو كنت فاكر حلها فهْلوة وتنطيط
أو نوم في العسل وهيحلها الحلال

أو شفتها فـُلة مش محتاجة تزبيط
وإنها جامدة وحالها عَال العـَال

فداري خيابتك وإتلِهي يا عبيط
كيد العدو يلزمه يا حِيلتها رجال!

..

الخميس، سبتمبر 05، 2013

إرتياح

لا تحاول فأنت مُحَارَب على كل الجبهات
إن اتخذت اليمين، فسيقول الساخرون:
وهل فعلَ إلا ما رأى قومه يفعلون؟!
وإن إتخذت الشمال، فسيقول الجلادون:
كيف يأت ما لم يفعله أباؤه الأولون؟!
لا تغضب صديقي فإنهم، حقاً، لا يقصدون
ولا يفقهون، ولا يشعرون، كما أنهم لا يبالون
فلا تخجل إن عَايروك بثوبٍ هم له لابسون
فهل رأيتهم يوماً يخجلون؟
فأنت، إذن، لم تأتْ إلا ما يأتون
لكن صعوداً، وهم هابطون!
..

الأحد، سبتمبر 01، 2013

مجاذيب بلدنا. مهدي، أو الذي كان صحفي.

طبقا لما ورد في دفتر يومياتي كانت أول مرة أرى فيها مهدي، الأربعاء 9 أكتوبر 2002 الموافق 3 شعبان 1423.
ربما لم أذكر عنه تقريبا أي شئ في دفتر يومياتي في هذا اليوم فقد كان كل ما ذكرته يدور حول نشاطنا الذي كنا نقوم به في ذلك اليوم، وكذلك عن بنت جميلة قابلتها في ذلك اليوم أيضا!
ولكني اتذكر أني بعدها قد كتبت عنه ما يشبه قصة قصيرة، ولكني لا أتذكر أين هي هذه القصة وسط أكوام كراريسي القديمة.
كنا في ذلك اليوم في زيارة لقرية تسمى مسطروة تابعة لمنطقة تسمى بر بحري تقع في الغرب من برج البرلس بمحاذاة البحر حتى تصل إلى مدينة رشيد، كنا في إطار نشاطات لمشروع أو حملة تسمى (تحسين التعليم) فازت بإقامة نشاطاتها الجمعية الخيرية في قريتنا(جمعية الربع الخيرية) وقد كانت هذه الحملة مدعومة من الإتحاد الإوربي. وكان هدفها تحسين التعليم عن طريق إقامة مؤتمرات شعبية بحضور أساتذة جامعات ومسؤولين من وزارة التربية والتعليم لتوعية الناس بضرورة التعليم وإقناع من جعل إبنه او بنته يغادر المدرسة بالعودة، مع وجود دعم مادي يتمثل في مبلغ مالي وملابس جديدة.
كنا مجموعة شباب نخرج مع سكرتير الجمعية كل يوم إلى عزبة جديدة ونقوم بتجهيز مكان للمؤتمر في أكبر مدارسها وكذلك لصق منشورات في الشوارع ودعوة الناس للحضور في الشارع وكذا من خلال المساجد وتعريفهم بأسباب المؤتمر والعائد منه.
المهم!
في ذلك اليوم دخلنا إحدي-إن صح ذلك!- الكافيتريات لنستريح بعد جولات طويلة من اللف في الشوارع ولنأكل ولنشرب شئ ولننتظر حتى تنتهي الفترة المسائية في المدرسة كي نقوم بإعداد مكان المؤتمر.
جلسنا نتحدث ونشرب ونأكل وإذا بكلمات فرنسية تخرج في موسيقى جميلة من إتجاه ما وقت خرقت وصدمت أذاننا في أن واحد. إلتفتنا لمصدر الصوت، فإذا في أحد الأركان قد جلس على كنبه شخص ذو هيئة غريبة، يبدو أنه قد تحطى الثلاثين بكثير كان يرتدي قميص مقلم يبدو متسخ وغير مهندم وبنطلون غامق وقد شمر ساقيه إلى مايقارب منتصف قصبة رجله ليظهر جوربه المخرم وحذاءه المهترئ، كان قد جلس واضعا رجل على رجل وبين يديه كراسة وممسكا بقلم، كان يلبس نظارة تتضاد مع تضاريس وجهه التي تبدو كالمجدورة وشعيرات ذقنه الطويلة المتناثرة وكذا شعره الطويل الذي يبدو وكأنه قد تم تصفيفه ولكن عبثت به الأجواء.
إلتفتنا جميعا نحوه في إستغراب، وقد لاحظ صاحب الكافيتريا ذلك فقال له:
بالراحة يا مهدي عشان الأساتذة
وكنا أيضا قد لاحظنا مدى إنسيابية يده الممسكة بالقلم على ورق الكراسة وهي تخط شيئا ما من الشمال إلى اليمين بينما فمه يردد ما يكتب بلغة فرنسية أنيقة.
كان هذا هو أول يوم أرى فيه مهدي.
..
عندما رجعت قررت أن أعرف قصة ذلك المجذوب، وقد كان حظي حسن جداً أنني سألت خالي حسني. فقد كان يعرفه معرفة شخصية!
كان مهدي-ومن يعلم بر بحري قديما سيعرف مدى المعاناة التي عانها مهدي في رحلة تعليمه- ترتيبه الثاني على المحافظة في الثانوية العامة، وكان من ألأوائل على كليته التي درس فيها الصحافة حتى أنه عمل في الأهرام وكان يجيد الإنجليزية والفرنسية إجادة تامة، وما حدث أنه وبعد فترة من عمله بالإهرام-ولا أعلم صراحة أي قسم فيها- أراد ذات مرة مقابلة رئيس التحرير، ربما هو كان صحفي متميز ولكن ماهي مؤهلاته الإجتماعية؟! لا شئ!، فأعترضت سكرتيرة رئيس التحرير دخوله وربما أهانته-فهي صاحبة سلطة!- ولكنه -وبإندفاع القروي وبالطبيعة الخلقية لأهل منطقته- إندفع لمكتب رئيس التحرير وشكى له سوء معاملة السكرتيرة له، وبطيبة أهل القرى قال له:
يا أنا يا السكرتيرة
فقال له: السكرتيرة طبعاًـ هو انت إية؟!
..
يقول خالي هذا هو ما حكاه له مهدي عندما سافر للعراق بعدها-في نهاية الثمانينات، والجميع يعلم كيف كانت العراق مصرية في الثمانينيات!- بعد أن ترك العمل في الأهرام، ربما حدث شئ أخر وربما هناك سبب اخر، ولكن كل هذا لا يعلمه إلا الله.
تقابل خالي معه في العراق مثلما يتقابل أهل البلد في الغربة وأقاما سويا وصارا أصدقاء، ويقول خالي أنه في تلك الفترة كان مازال بكامل عقله وكان ربما تخطى ازمة الأهرام وتأثيرها النفسي عليه، ويقول خالي انه كان شديد الذكاء، ففي أحد الأيام ذهبا لإحدى الهيئات الحكومية بالعراق لإستخراج أوراق الإقامة ولكن كانت الأعداد هائلة، وقال له خالي أنه صار له ما يقارب الشهر ياتي يوميا ولا يستطيع دخول البوابة لأن الأمن يدخل عدد محدود يوميا، وقال له أن الأمن كلما إقتربت الأعداد محاولة الدخول جروا خلفهم بالسياط فيجري الجميع أمامهم!
يقول خالي أن مهدي سكت للحظات وقال له على طريقة ستجعله يدخل بسهولة، وقال له عندما يجري الحراس خلف الناس الراغبين في الدخول، بالتأكيد يجري الجميع أمام الحراس، فأشار عليه أن يجري هو بالإتجاة المعاكس، أي أن يجري ليقابل الحرس لا يجري أمامهم وحينها سيجد نفسه قد وصل للبوابة.
وبالفعل عندما كثرت الأعداد وأقتربت من البوابة إستعد الحرس للقيام بالنشاط المعهود، فجهزوا السياط وجروا بإتجاة الجماهير الغفيرة التي خافت بدورها وجرت أمام الحرس، بينما فعل خالي بالنصيحة وجرى في إتجاه الحرس الذين فوجئوا بذلك وتجاهلوه حتى وجد نفسه بأحضان البوابة الخالية من الحراس ففتح ودخل، ثم أشار لمهدي من الداخل بيده بينما على وجهه إبتسامة أقرب للضحكة الهيستيرية!
..
بعد أن رجع مهدي من العراق الذي كان السفر إليه بمثابة هروب مما حدث له في الأهرام، هجمت عليه حالة نفسية لم تتركه إلا وهو مجذوب يطوف شوارع البلاد، بطوله الفاره الذي بدأ ينحني لإنحناء ظهره من كثرة نظره للأرض وهو يمشي، بقميصه المقلم وبنطاله الغامق الذي طويت ساقاه لمنتصف قصبة رجله مظهرة جوربه المقطع وحذائه المهترئ، بينما بين كل خطوة وأخرى، وبملامح تحمل إبتسامة ساخرة أحيانا أو حزن مجهول الهوية أحيانا أخرى، ينظر مرة يمينا ومرة يسارا ويعدل من وضوع النظارة الطبية على أنفه.
مازال العبقري مهدي على قيد الحياة، كنت أراه في السنوات الماضية كثيرا، فهو كان دائم التجوال، حتى أنه في مرة وكنا جلوس في الشارع مر علينا وكان معنا خالي فناداه وسلم عليه خالي وسلم هو عليه وناداه بإسمه وتحدث كأي إنسان عاقل رزين.
لم أره منذ سنوات، ربما لأنني أصبحت اغيب كثيرا عن البلد ولا أقضي وقت طويل في الشارع مثل الماضي، وربما لأن مهدي قد سئم التجوال مثلما سئم البشر ونفاقهم وفسادهم.
..
على الهامش.
-قررت أن يكون الحكي اليوم عن المجاذيب هروبا من دنيا الحمقى!
-هذه السلسلة تتناول أشخاص حقيقين من بلدنا، ولا تحمل إي إسقاط على الواقع. وأسلوبي فيها أسلوب بسيط قد لا يحمل ترابط القصة ولا فكرية المقال، ولكن أعتقده يوصل الفكرة بطريقة بسيطة. وقد آثرت ذكر أسمائهم الأولى فقط، كما أن بلدنا المستخدمة هنا لا تعني مصر أو الدولة، بل هي بمعناها الذي إعتدناه صغارا والذي يشير إلى منطقتنا!
-أستاذتنا شمس النهار، عبارتك في تعليقك على التدوينة الأولى ( في إعتقادي أن أغلب المجاذيب وضع عقلهم يده على الحقيقة فأُذهب عن الواقع) هي عبارة عبقرية وأظنها تحمل تفسير عميق وحقيقي.
..