الأربعاء، أكتوبر 07، 2020

سينما باراديزو




 اعتادوا يوصفوا الفيلم بإنه عن مخرج سينما بيرجع بذاكرته لبلدة طفولته، لكن الواقع إن الفيلم عن عامل تشغيل سينما صنع مخرج سينما.
لكن أياً ما كان وصف قصة الفيلم، سينما باراديزو هو تحفة فنية ممتعة.
في "سينما باراديزو" بنشوف علاقة خاصة جداً بين الطفل توتو وعامل تشغيل السينما الفريدو، علاقة ما تقدرش تصنفها، هل هي علاقة صداقة، أم علاقة أبوَّة، أم علاقة شغف مشترك بالسينما، أم هي كل ده وغيره كتير.
الطفل توتو طفل مجنون بالسينما، مش بس الجنون بإنه يتفرج على الأفلام، لكن جنون وشغف بإنه يعرف الصنعة نفسها، إنه يلمس شريط السينما، إنه يحطه في مكنة العرض ويشغله، إنه يظبط الإنارة والشاشة.
عشان كدة كان بيحاول يتقرب من الفريدو عامل تشغيل السينما.
توتو كان عايش مع والدته وأخته الصغيرة، ووالده راح الحرب وما رجعش. وده كان كفيل بإنه ياخد علقة سخنة من أمه على كل غلطة بيعملها، علقة بتطلع فيها أمه وجعها وألمها من وحدتها ومرراة حياتها من غير الزوج اللي راح وما رجعش. وفي مشهد له مغزى كبير أما بتضربه بحرقه وعنف لأن قصاصات الشرايط اللي كان مجمعها في صندوق صفيح ولعت وكانت هتولع في البيت، وتضربه أمه بعنف خاصة بعد ما تيجي الكاميرا على الصور اللي كانت مع القصاصات، ومنها صورة والده ووالدته اللي أكلتها النار، بما معناه إن والده خلاص مات، او إنهم لازم يعترفوا بده، وإنه مش هيرجع زي ما امه بتقول، أو بتتمنى.

توتو، رغم العلقات الكتير اللي أخدها برضوة ما حرمش، وكان دايما في السينما، ومحاولاته بإنه يتصاحب على ألفريدو عشان يتعلم منه ما وقفتش. لغاية ما جاته الفرصة. الفريدو كان أمي، فعشان كدة دخل امتحان الإبتدائية وهي المرحلة اللي توتو كان بيمتحنها.
وفي مشهد قمة الروعة بين توتو وألفريدو في قاعة الإمتحان، بيساوم توتو ألفريدو إنه يغششه الإمتحان على شرط إنه يعلمه إزاي يشغل آلة السينما، وبيوافق ألفريدو، فيحدف له توتو ورقة فيها حل الإمتحان، فياخدها الفريدو في سعادة ويوفي بوعده لتوتو.

العلاقة بين توتو والفريدو تعمقت جداً، ونقل الفريدو لتوتو كل اللي اتعلمه، لكن أكتر اللي عمق العلاقة بينهم هو حادث حريق السينما اللي بسببه فقد الفريدو بصره، واللي كان هيفقد حياته فيه لولا ان الطفل توتو هو اللي انقذه بإنه جر جسمه خارج الحريق بعد ما سقط على الأرض مغمى عليه، واللي بيظهر فيه حب توتو لالفريدو وتعلقه بيه، خاصة وهو بيبكي وبيصرخ وهو بيردد اسمه عشان يفوق ويرد عليه.
الفريدو كان بيعلم توتو الحياة، ما كانش دايما بيقول له النصيحة بشكل مباشر، كان بيجبهاله عن طريق اقتباس من فيلم أو قصة غامضة، عشان كدة أما حب يساعده في إنه يحصل على حبيبته ويلفت نظرها ليه، حكى له حكاية الجندي اللي قال للأميرة إنه هيسهر قدام شباكها 100 ليلة عشان يثبت لها حبه، لكن جه عند الليلة 99 ومشي، واما بيسأله توتو وإيه الي حصل بعدها، بيقول له الفريدو إنه ما يعرفش!
وكأنه بيقول له أما تجرب هتعرف ايه اللي هيحصل.

وبيجرب توتو بالفعل، وبيفوز بقلب حبيبته، ويكون اعترافها بحبه في اوضة تشغيل السينما، وكأن آلة تشغيل السينما هي أجدر من يستحق ان يكون شاهد قصة غرامهم.


 لكن بتفرق بينهم الأيام.
ورغم مرور السنين ومقابلته لبنات كتير بيفضل هو ده الحب الوحيد في حياته. أو زي ما امه قالت له بعد ما رجع بعد سنين، إنها في كل مرة كانت بتتصل بيه كانت بترد عليها ست مختلفة، لكن ما سمعتش صوت فيهم بيحبك بجد.
وبتكون نصيحة، أو المرة دي أمر، الفريدو لتوتو إنه يسافر لدنيا أوسع، يسافر ويعمل مستقبل ويصنع حياة جديدة، يسافر وما يرجعش.
وده هو اللي بيعمله توتو، ومش بيرجع غير بعد 30 سنة، بعد وفاة الفريدو عشان يحضر جنازته.

مشاهد النهاية في الفيلم محزنة، فتوتو بيرجع في مشهد جنازة ألفريدو وبيقابل كل الناس اللي عاش حياته معاهم وهو طفل صغير، وبيقابل صاحب السينما اللي اشتغل فيها في فترة طفولته وشبابه المبكر، وبيعرف منه إن سينما بارديزو البلدية هتهدمها. وفي مشهد حزين بيرجع لمبنى السينما وهو خراب ومغطيه التراب وخيوط العنكبوت، ويسترجع فيه أيام طفولته.
واستكمالاً لمشاهد النهاية المحزنة، بنشوف المشهد اللي بيقف فيه كل أهل المنطقة، مكونات ذكريات توتو، والسينما بتتهدم. سينما باراديزو اتهدمت قدام عينه وما عدش لها وجود، وكأنها قتلت كل ذكريات الطفولة الجميلة، وألفريدو مات، وعشان كدة توتو خلاص كان قراره، واللي طلبته امه هي كمان منه، إنه هيسيب بلدته القديمة للأبد.

لكن ألفريدو ما بيقبلش غير بإنه يصنع نهاية حلوة للحدوتة. نهاية بترجعنا لمشهد في بداية الفيلم أما بيدخل توتو أول مرة لغرفة التشغيل ويكون ألفريدو بيقص مشاهد البوس من الأفلام، ويمسكها توتو ويبص فيها، ويمسك كوم الشرايط المقصوصة ويطلب من الفريدو انه ياخدها، لكن الفريدو بيرفض، وأما بيغلب معاه بيقول له إن قصاقيص الأفلام ده هيديها له هدية لكن هتفضل معاه، وبيطلب منه يمشي قبل ما يضربه!
يوافق توتو، لكن يخرج من الباب وهو بيفكر، وبعدها يرجع ويقول لالفريدو، هو إزاي تديهم لي هدية ويبقوا بتوعي وتسيبهم عندك وما اخدهمش؟!
فيهب فيه الفريدو فياخد السلم جري!
وهنا بتكون أجمل نهاية للفيلم في المشهد الختامي أما توتو، ياخد الهدية اللي سابها له ألفريدو، وتكون عبارة عن فيلم سينما قديم. ويكون الفيلم عبارة عن تجميع لكل مشاهد البوس ومشاهد الغرام اللي كان الفريدو بيقصها من الأفلام.
وعلى مدى 3 دقايق تتنقل الكاميرا ما بين مشاهد البوس المعروضة على الشاشة، وما بين تعابير وجه توتو، اللي كانت ما بين دموع وابتسام وتعجب، وحب.




السبت، ديسمبر 10، 2016

بين فيلمين




في فيلمي الختم السابع "ذا سيفنث سيل" و الرمادي "ذا جري". بنقابل شخصيتين في عالمين مختلفين وزمنين مختلفين. أوتواي صائد الذئاب المحترف، وانطونيوس بلوك الفارس العائد من الحروب الصليبية.
واللي ببيجمع بينهم عدة روابط وتشابهات، فكل واحد فيهم بيخوض صراعه الخاص مع الإله، ومع الحياة والموت ومعنى الوجود.
أنطونيوس اللي راجع بخيبة من الحرب، واللي قطع آلاف الأميال عشان يرجع وطنه، أول حاجه يقابلها أما يفوق على الشط بتكون الموت. الموت اللي تفاداه خلال سنين قضاها في الحرب بكل ما فيها من أخطار، بعد أما يوصل للأمان يلاقيه في انتظاره.
أنطونيوس مش خايف من الموت، بس عايز يعرف فكرة ولو بسيطة عن الإله، وهل هو موجود ولا لأ، ولو موجود فهتكون المقابلة بينهم بعد الموت شكلها إيه؟. فبيعرض على الموت عرض، بيعرض عليه إنه يلاعبه دور شطرنج، إذا فاز الموت يسيبه، وإذا اتهزم الموت يحصد روحه.
وكأن أنطونيوس بعرضه ده بيعرض سعي الإنسان ومحاولاته في التغلب على الفناء، في إنه يفضل باق، من خلال استخدام الإنسان لأفضل ما يجيده في الحياة عله يبقيه قيدها.

على الجانب الأخر، أوتواي واللي فقد معنى الوجود والحياة بفقد زوجته، واللي حاول ينهي حياته وينتحر، بيلاقي نفسه بعد تعرض طائرته للسقوط في صراع من أجل البقاء. وصراعه بيكون ضد الذئاب اللي هو صائد محترف ليها.
البطلين بيمروا بصراع قاسي في تقديرهم لقيمة الحياة، هل هي تستحق منا إننا نقاتل من أجلها ومن أجل بقاءنا فيها ولا ما تستحقش؟
لكن البطلين عشان يختاروا البقاء كان لازم يكون في معنى لبقاءهم، خاصة إن الاتنين فقدوا أحبائهم بما قد لا يجعل لحياتهم معنى. والمعنى جه من خلال مشاركة أخرين ليهم، أخرين لازم يساعدوهم على البقاء والنجاة من براثن الموت.

أنطونيوس بيكون معاه رفيق، وبينضم ليهم أخرين بيقابلوهم في الطريق. وعشان ينجو هو من الموت، وينجو هؤلاء من الطاعون المتفشي، قرر إن عليه حمايتهم في قلعته، فهناك ربما لا يستطيع الموت أن يطالهم. ونجد أوتواي يقود من نجوا معه من حادث التحطم ليبتعدوا عن منطقة سيطرة الذئاب ربما يكتب لهم النجاة.
لكن انطونيوس واللي معاه ما بتقدرش قلعته تحميهم، وبيدخل عليهم الموت وهم بيبصوا له بأنظار ذاهلة. وكأنه بيقول لهم أنا سمحت لكم توصلوا هنا لأن ده المكان اللي لازم تموتوا فيه. وفي مشهد رهيب يسوقهم أمامه مربوطين في بعض عشان يحصد أرواحهم، في ميعادها، وفي مكانها.

أوتواي واللي فقد كل رفاقه على طول طريق الهروب، بيقرر في النهاية الإستسلام، لكن بيكتشف سخرية القدر، فالمكان اللي وصل له كان وكر الذئاب اللي كان طول الرحلة بيحاول الابتعاد عنهم والهرب منهم.
أوتواي بيقرر يقاتل بعد ما فكر يستسلم، بتتغلب عليه فكرة البقاء، واللي بتمنحه شجاعة وقوة إنه يقاتل الذئب رئيس القطيع، وفي وكره.
وهو بيردد كلمات كان كتبها والده:
Once more into the fray..
Into the last good fight I'll ever know.
Live and die on this day
Live and die on this day

وشوف في النهاية مشهد مبهم لرأس اوتواي فوق جسد الذئب القائد، بما قد يعني إنه انتصر، وبقى.
..
الفكرة هي فكرة الوجود، فكرة إن النهاردة حياتك وموتك.
فكرة توحش غريزة البقاء بمجابهة حي يقتات بك وموت يحيا بموتك، وإنك أحياناً ممكن تستسلم وتيأس من الحياة وتعتقد إن الموت لو جالك هترحب بيه، لكن تلاقي غريزة البقاء توحشت فيك، وتلاقيك بشتى السبل بتحاول إنك تفضل حي.
فكرة إن الظلام الموحي بالموت ممكن يحوي ضوء باهر نابض بالحياة، وإن الضوء الباهر الموحي بالحياة ممكن يسوقك لدرب مظلم مُشبَّع بالموت.
وفكرة إنه أحياناً لازم يكون في مواجهة، لأن الحاجة اللي بتهرب منها لازم هتقابلها، والمقابلة مع الحاجة دي ممكن ما تكونش في الطريق، لأ، ممكن تكون في الوكر بتاعها.
..

الأحد، أكتوبر 23، 2016

رنگ خدا



في الفيلم الإيراني الشهير صبغة الله "رنگ خدا" بنشوف قصة انسانية ممكن تتكرر كتير، طفل أعمى، منقطع "المنقطع في اللغة أو العجي هو من فقد أمه، والغريب أن العجي أو المنقطع، من فقد أمه، أشد بؤساً من اليتيم، أي من فقد أباه!" وأب ساخط، وجدة رحيمة.


قد تشرح كلمة رحيم علاقة الجدة بهذا الطفل الأعمى فاقد أمه، فاقد مصدر الحب والحنان، فتكون هي مصدر الحب والحنان والرحمة بالنسبة له، وقد عبر المخرج في لقطات شديدة الانسانية عن هذه العلاقة.
وقد تشرح، وهي لب الموضوع، لفظة "ساخط" حال الأب. فالأب الذي كان ينتظر من الله أن يرزقه بولد يكون سنداً له، يرزقه بدلاً عنه بولد أعمى يزيد عليه أعباءه. ويرى الأب في هذا الطفل مصدر شقاءه وتعاسته وتعبه في الحياة، بل ومصدر نحس منعه من الحصول على العروس التي كان يتمناها. لذلك يسعى للتخلص منه بشتى الطرق، فكرة يحاول أن يتركه في مدرسته حتى في فترة الأجازة ولا يصحبه للبيت، وتارة يأخذه لنجار ليعلمه النجارة، حتى يصل للقرار الأخير، وهو التخلص منه نهائياً.

ونجد نهاية رائعة للفيلم، عندما يصطحب الأب ابنه وقد بيت النية على التخلص منه، ويبدو أن الولد قد استشعر ذلك، ولكن لم تكن لديه أي حيله لتغيير مصيره. وتتعجب كيف ينقلب حال الإنسان في لحظه، وكيف يرق القلب القاسي من مسة فـَقـْد.
فبينما يسير الأب بمحمد في قلب الغابة، ربما ليجد المكان الأمثل لإرتكاب جريمته، يسقط الحصان في النهر وهم يعبرون فوق جسر خشبي، ويسقط معه محمد. يقف الأب يتابع المشهد بعيون ذاهلة لا يفعل أي شئ، وكأنه يتابع مشهد النهاية لما كان يسعى له.
ولكن في خضم المشهد، وهو يتابع إبنه الأعمى وقد جرفه التيار الهائج للنهر، تأتيه تلك الـ "مسة" مسة الفقد، فتتحول ملامح وجهه من الذهول والمتابعة إلى البكاء والحزن، فيقف ويجري بطول الساحل وهو يصرخ بإسم إبنه، ثم يلقي بنفسه في الماء خلفه وينجرف وراءه، ويفقد أثره في الماء. ثم يستفيق الأب على صوت طيور الماء وقد ألقاه الموج على الشط، وينظر فيجد جسد محمد ملقى على الشط، فيجري نحوه ويحتضنه بين ذراعيه، ربما هي المرة الاولى التي يفعلها!، ويبكي بكاءاً مراً، بكاء الذنب وبكاء الفقد.
ربما جاءت الرحمة لقلب الأب متأخرة، وربما هو لم يفهم قدر الله وتدبيره، وصبغته في خلق خلقه وإدارة كونه.
ولكن الله الرحيم لم يشأ أن يعذب هذا القلب القاسي بعد أن منحه شعور الرحمة، إذ بينما يبكي وينتحب الأب وقد ظن أن ابنه مات، ينطلق في الفضاء صوت نقار الخشب، فنجد أن أصابع محمد بدأت في التحرك، لتمارس حركتها في حساب لغة نقار الخشب. فنعلم أنه مازال حي.
ربما محمد قد عانى فيما مر من حياته، ولكن الأكيد الأن أن القادم سيكون مختلف تماماً.
.