الجمعة، أغسطس 16، 2013

هل هذا قدر ومصير؟

أخشى ما أخشاه هو أن تفرض الدماء سياسة دكتاتورية يقبلها الجميع ولا يستطيع أحد رفضها خشية أن يقال عليه شامت أو خائن.
هذا ما قلته في تدوينة سابقة قبل أنهار الدماء التي سالت في المجزرة الأخيرة وما بدأ يُطبق بالفعل.
فرفضك للقتل والعنف بكافة أشكاله الذي يُمارس في الشارع أصبح لا يثبت أنك إنسان مادمت لم تنضم للإخوان بعد، فأنت مازلت في صف القاتل.
إذا لم يكن هذا رأي كثيرين فربما على الأقل هو رأي أقاربي من الإخوان.
..
  كم كنت أتمنى أن يسألني من شهر أو من عام إبن عمي الذي عاد بالأمس من رابعة مصاب في عدة أماكن من جسده بطلقات خرطوش، كنت أتمنى منه أن يسألني، إحنا كإخوان مش عاجبينك لية؟ في إية في سياستنا غلط؟
كم كنت أتمنى أن توجه هذه الأسئلة لي منه ومن إخوته ومن إمام المسجد ومن كل أقاربي الإخوانيين ومن كل شخص إخواني ويعرف أنني ضده.
كم كنت أتمنى أن يناقشوني فيما كتبته من أراء وقرأوها وسمعوها مني في بداية الأزمة قبل ويوم 30 يوليو قائلا أن الإخوان بإمكانهم صنع تاريخ لهم يحفظ للبلد المسار السلمي ويجنبها كل ما وصلنا إليه. ولكن هذا لم يحدث وتجاهلوا كل شئ.
كم كنت أتمنى أن يستمع لي أقاربي وأصدقائي الإخوانيين عندما قلت لهم لا تستخدموا على الإنترنت شعارات قد تستخدم ضدكم وألعبوا سياسة بشكل صحيح، كم قلت لهم لا تقولوا وتكتبوا بكل فخر أنكم تريدون الشهادة وان أرواحكم على كفوف أيديكم وتحضروا أطفال أبرياء وتسموهم مشروع شهيد، بل قولوا نحن نريد الحياة ولنا الحق في الحياة ولنا الحق في الإعتصام وواجب الحكومة والدولة أن تحمينا وأن تحافظ على حياتنا.
كم قلت لهم عندما جاءت أشتون ووزراء خارجية عدد من الدول لمقابلة مرسي وعدد من قيادات الإخوان المسجونين، أن لا يغادروا الواقع، الذي يصرخ بالقول أن هذه الزيارات ماهي إلا تثبيتاً لما حدث حتى يقال أن جميع المحاولات قد أستنفذت، منغمسين في توهماتهم بالقول أن حضور هؤلاء يعني أن البساط ينسحب من تحت أقدام الإنقلابين وأنهم يبحثون عن مخرج وأن الرئيس مرسي سيعود غداً!
...كم وكم وكم.
..
نحن ونحن أبناء العائلة الواحدة لم نفتح قناة حوار بيننا يعرض من خلالها كلا منا أسباب معارضته للأخر، لا أريد أن أقول أنني وغيري قد دخلنا معهم في حوارات إنتهت قبل أن تبدأ بسبب توجههم هم فليس منهم أحد هنا ليرد على كلماتي أو يثبت صدقي من كذبي وعليه فأنا سأعتبر أن الحوار بيننا لم يبدأ أصلا.
نحن كأبناء قرية واحدة مكشوفون لبعضنا البعض، فهل ترانا إن سَبَكنا دورا معينا لنظهره للغرباء ومن لا يعرفنا، هل ترانا سينطلي علينا كذب ما نعلم حقيقته تماماً؟
هذا ما قلته لأحد أقاربي -وهو بوق إخواني على الفيس بوك، وللأسف أنه هو نفسه كان قد عرض علي هذه الوظيفة في عام 2010 قبل الإنتخابات البرلمانية وأخبرني أن الإخوان يعجبهم أسلوبي وسينشؤون لي صفحة وسيدعموني بكل شئ!- قلته له وهو خارج لقطع الطريق يوم مذبحة رابعة، بعد أن قاموا بفض السوق الإسبوعي المقام في ساعاته الأولى رغم توسلات الباعة، من أجل أن يقيموا إعتصاما هناك ومن أجل إيقاف أي نشاط في البلد. وقاطعني تبعا لذلك مع إتهامي بأنني أعتقد نفسي الفاهم الوحيد، طبعا إلى جانب أني شامت وخائن للدماء.

   ربما كان هذا أخف مما حدث في مسجد قريب عندما ألقى الإمام دعاء لا يروق للبعض فخرجوا من الصلاة وقام بعد ذلك عراك شديد وكادت عائلتان أن يتقاتلا لولا أن بعض العقلاء إستطاعوا فض الموضوع بسلام.
وهذا بالتأكيد ربما يماثل ما حدث في إحدي المسيرات المؤيدة لمرسي عندما رفض البعض أن تمر المسيرة من أمام منازلهم ورحب وصمم البعض الأخر-وهو جار ملاصق للرافض- أن تمر المسيرة غصبا عن التخين في المنطقة!
رغم أنني عندما سألني أصدقائي المساندين للإخوان عن المسيرات أخبرتهم- بالظاهر وبعيدا عن ماقد يكون خفي- بأنه حق لهم ولكن يجب ملاحظة عدة أشياء وإتباعها، وكان من أهمها أننا قرية وأننا جميعا ربما نعلم من مع هذا ومن ضد هذا فالأولى أن يتخلى الإخوان عن النبرة العدائية والسلوك العدائي الذي إتبعوه في أول مسيرة والذي تمثل في تعمدهم الوقوف أمام منازل المعارضين ليشتد الهتاف ولتحمى الدعوات على الطرف الأخر، وهذا لن يتقبله المعارض فالأولى أن افعله أمام منزل مؤيد. ولكن هذا لم يحدث وتكرر سيناريو المسيرة الأولى فحدث ما حدث.
وعندما قام الطرف المعارض للإخوان بإقامة مؤتمر، وقبله بيوم خرجت عربة للدعوة للمؤتمر حدث شئ مماثل إذ وقف أمام العربة أحد قيادات الإخوان المعروفين في البلد هو وأبناءه ليمنعوها من المرور وإستكمال النداء، بينما بعده بأمتار وقف أخرون يحثون العربة على القدوم والنداء غصب عن التخين!
إذا كان هذا شأن الأقارب وسكان المنطقة الواحدة فتخيل ذلك على نطاق أوسع يشمل دولة بأكملها.
ستجد بإختصار أن هذا هو ما أوصلنا لما نحن فيه.
..
الأن وقد وصلنا لما وصلنا إليه، ماذا يجب علينا أن نفعل؟
..
This is a country that can't do a damn thing for itself but kill each other. Perhaps this is their destiny.
هذا كان تعليق أحد القراء على تقرير نشرته الواشنطن بوست عن الأحداث في مصر.
هل فعلا ليس هناك شئ بإستطاعتنا فعله لمصر ولنا إلا أن نقتل بعضنا البعض؟
وهل فعلا أن هذا قدرنا ومصيرنا؟
لا يصح أبداً أن نتحدث بحزن فالأوجب هو أن نتحدث بخجل ممزوج بالعار، فالحديث لا يجب أن يكون عن من مات وغادر الحياة، بل عن من مازالت الحياة تأن من وطء تحمّلهم وقد ماتت قلوبهم وعقولهم ومازالت ألسنتهم تهذي وأياديهم تبطش وأرجلهم تتخبط، الحديث قبل كل شئ يجب أن يكون عن كلمة كفى. فهل هناك من سينطق بكلمة كفى؟
..

الأربعاء، أغسطس 14، 2013

هل نريد أن نخرج من هذا؟

يبدو أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن حصائد الألسنة هي ما تكُب الناس على مناخرهم في نار جهنم يوم القيامة لا يُخيف الكاذب بقدر ما يُخيفه تهديد من شخص جسور قائلا:
لو كذبت هأقطع لسانك!
أو:
إخرس مش عاوز أسمعلك صوت!
تـُرى أيهما أحق أن يُتبع وأن يُخشى؟ ولكنها طبيعة البشر عندنا.
أصبحنا نصدق الأكاذيب-المكتوب منها على شكل أخبار والمرئي منها على هيئة صور وفيديو- وننقلها ونروجها دون أدني تدقيق في مدى صحتها أو مدى ما قد تثيره في نفوس المتلقين، أصبحنا نغمض أعيننا إلا عن ما يُرضي هوانا وتوجهنا ومنهجنا وما سواه فهو غير موجود وإن إعترفنا بوجوده ففكرتنا أنه كذب وتلفيق وإدعاء.
أصبحنا نعتنق أفكار لا نفهمها ويتحدث بها لساننا دون وعي بمعناها ودون وعي بما قد تجلبه من سوءات ومزيد من القتل والدمار.
..
قد يفهم البعض موقف الغلابة من هذا الشعب من رفضوا الدماء والقتل، ولكنهم لن يفهموا موقف البرادعي وبعض القوى الليبرالية أو اليسارية والذين رفضوا فض الإعتصام بالقوة أو فضه من الأساس، فهم أولا ببساطة يدافعون عن حقهم المستقبلي والذي لن يخلوا من مظاهرات وإعتصامات، حتى إذا جاء حينها قالوا لقد أنكرنا القتل والدماء وشجبنا فض الإعتصام بل ورفضناه. فهم ليسوا بسذاجة الإخوان الذي ساندوا العسكر من بعد سقوط مبارك وحتى تولي مرسي في كل ما قاموا به من عنف وقتل في الشارع وأكتشفوا فقط  ذلك عندما حانت لحظة المصلحة وهتفوا يسقط يسقط حكم العسكر وطلبوا دعم الشارع والقوى الثورية فلم يجدوا منها إلا تذكير بمواقفهم القديمة وربما عبارة ربنا بيخلص.
وثانيا هم يحاولون الحفاظ على صورتهم العالمية، فنهجهم نهج الإعلام الغربي، يدين ويشجب القتل والعنف لا لأن هذا يحزنه فربما في الحقيقة هم يريدون المزيد من القتلى، ولكنهم يحاولون الحفاظ على صورة مجتمعهم الديموقراطي الإنساني الحنون!
من منا تراه يُنكر من ذاته القتل والعنف كموقف إنساني مُتغلبا على فكرة غباء نده الواضح أو إحتمالية إستحقاقه لما حدث له؟!
..
جميعنا نقول أن أمريكا وإسرائيل لهم يد طولى فيما يحدث في مصر، وهذا أكيد وسهل ملاحظته، ولكن المستحيل الوصول له لإجابة واحدة هو سؤال:
أي يد تستخدمها إسرائيل وأمريكا في مصر؟
خاصة أن جميع أيادينا تلوح بعلامة V علامة النصر الشهيرة لتشرشل، بينما يحمي رؤوسنا من الحر كابات طبع عليها NY نيويورك يانكيز، بينما باقى الملابس موزعة مابين كالفين كلاين، أديداس، ونايك! 
كل هذا بينما من يُقتل يُقتل ومن تسيل دماءه تسيل، ومن يحصي القتلى يحصيهم ومن يدعو لهذا وعلى هذا يدعو ومن في إتجاه يكمل في إتجاهه.
بينما لا ندري، من تراهم يريدون لبلدنا أن تخرج من هذا؟ وأين هم ؟
هل سيستمر الإخوان في نفس طريق تصعيدهم الذي قد يرى البعض أنه لا غرض منه إلا تدمير البلد؟
هل سيكتفي العسكر والحكومة الحالية بما قدموه سالفا من مبادرات أو ما وافقوا على طرحها من قِبل بعض الرموز ويضعوها جانبا من منطلق أن الإخوان قد رفضوها جميعا، وبأن الوضع قد حسم وباب المبادرات والمصالحات قد قفل بلا أي نية للرجعة؟
ترى لو كان هذا هو القادم، فهل سنجد لون أشد غمقاً وبؤساً من الأسود نصف به أيامنا؟

الاثنين، أغسطس 12، 2013

مجاذيب بلدنا. العباقرة وأولهم عوض.

كان عوض سائق عربة إسعاف في وقت كانت فيه أغلبية أهل قريتنا لا يعرفون ما هي العربة ولا ما هي الإسعاف.
بل لقد كان عوض (مُسْعِف) ماهر ومُدرب وليس مجرد سائق ينقل الجرحى والقتلى.
    مات عوض منذ سنوات قريبة عن سن كبيرة، ولقد ولد وعاش بشكل طبيعي وتميز من ضمن من تميزوا من الأجيال الأولى التى إلتحقت بالتعليم بعد إفتتاح مدرسة في قريتنا ضمت كل باحث عن التعليم في سبع قرى مجاورة.
بعد إكماله لمرحلة التعليم الإبتدائي بمدرسة قريتنا-وهي نفس المدرسة التي إلتحقت بها في أول دخولي للمدرسة إلى أن تحولنا لأخرى بعد زلزال التسعينات- إلتحق بالمدرسة الإعدادية بالمركز-والتي كان الذهاب إليها على الأقدام ولمسافة تقارب العشرة كيلو مترات- ثم أنهاها وذهب إلى البندر مع أحد الأقارب المقيمين هناك وبعد سنوات في أعمال متفرقة عمل كسائق لعربة إسعاف وقد أجاد معظم الإسعافات الطبية الضرورية.
من عاصروه في جيله ومنهم أطباء قالوا أنه كان عبقري ولو سمحت له الظروف بدراسة الطب أو العلوم لصار طبيب مشهور أو عالم كبير.
..
ذهل أهل القرية جميعهم ذات يوم عندما رأوا عوض غير ذاك الشاب الأنيق الذي إعتادوا رؤيته في الأجازات التي كان يأتي فيها إلى القرية، إذ أنهم رأوا بدلا منه شاب مجذوب رث الثياب منكوش الشعر هائم النظرات.
منذ ذاك اليوم بدأت حملات التكهن للوصول لسبب (لسعان مخ) عوض. البعض قال أنه بسبب مرض وراثي في العائلة فقد إنجن أحد جدوده بعد وصوله لسن الشباب وكان قبلها زين الرجال!
أما الأكثرية فقد جزموا بأن (عقله خف) من كثرة سماعه لحوارات عفاريت القتلى الذين كان يحملهم في عربة الإسعاف!
ولكن حتى اليوم لم يعرف أحد السر وراء ماحدث لعوض، وهل هو كان إختلال عقلي أم حالة نفسية كانت تحتاج فقط إلى تقويم ولم تجده، خاصة إنه رغم هيئته الرثة كان مازال برزانته ويعقل كل ما يقال له وما يقوله، ولكن الأكيد أنه كان ضيق الصدر في تعامله مع البعض وكان حازم في كلماته وأوامره، وأتذكر-فلم أره منذ سنوات طويلة وحتى وفاته ومعظم رؤيتي له كانت وأنا طفل- أنه كان صاحب إبتسامة ساحرة رغم شعر رأسه المنكوش وذقنه الطويلة.
..
أتذكر أننا -ونحن صبية صغار- كنا نراه دائم الجلوس في المقابر، وكنا نتعجب كيف أنه لا يخشى أن يطلع له عفريت، ثم جاءنا الجواب من سيدات القرية إنه أصلا بيروح التـُرب (المقابر) عشان يقابل العفاريت اللي جننوه!
ربما حينها كنا نمثل الخوف ونقول (يامه!) عندما نسمع هذا الكلام، ولكن بعد أن كبرنا، أو ربما أنا، بدأت أبحث عن تاريخ عوض وعن تاريخ هؤلاء المجاذيب وأسترجع مواقفي معهم وأتذكر-وأتعجب- كم كانوا حكماء في حواراتهم وكلماتهم.
..
منذ سنوات قريبة كان في القرية أحد المرضى وأردوا أن يضعوا له محلول، فذهبوا لأحد الأشخاص بالقرية والذي يعمل بالمستشفى المركزي ليضع له المحلول، ولكنه فشل في أن يجد له وريد ليضع فيه الإبرة فما كان منهم إلا أن إتصلوا بأحد الأطباء من أبناء القرية-وقد كان زميل عوض في الدراسة- والمقيم في المركز وأخبروه بالوضع وبأن الجميع فشل في أن يجد وريد يضع الإبره فيه وأنهم يريدونه ليقوم بهذه المهمة. فما كان من الدكتور إلا أن قال لهم إبعتوا لعوض وهو يركب له المحلول!
طبعا جادلوا كثيرا مع الدكتور خاصة أن عوض مجذوب من سنوات طويلة، ولكن الدكتور صمم بأنه الأقدر على فعل ذلك. ولم يكن أمام الجميع إلا الإنصياع لرأي الدكتور وذهب أحد الرجال ليطلب من عوض، في مقره الدائم في المقابر، أن يأتي ليركب المحلول لفلان الفلاني المريض، وبالفعل أتى عوض وسط ذهول الجميع، بثيابه الرثة وهيئته المنعكشة، مرفوع الرأس بكبرياء وفي عينيه نظرة تشبه نظرة الإحتقار ودخل على المريض وليزيد من حيرة الجميع أمرهم جميعا بالخروج وطلب ماء ليغسل يديه. وركب للمريض إبرة المحلول بوريد في رقبته وجلس بجانبه حتى نفد المحلول وإطمئن عليه ثم خرج إلى مقره الدائم بالمقابر.