كان عوض سائق عربة إسعاف في وقت كانت فيه أغلبية أهل قريتنا لا يعرفون ما هي العربة ولا ما هي الإسعاف.
بل لقد كان عوض (مُسْعِف) ماهر ومُدرب وليس مجرد سائق ينقل الجرحى والقتلى.
مات عوض منذ سنوات قريبة عن سن كبيرة، ولقد ولد وعاش بشكل طبيعي وتميز من ضمن من تميزوا من الأجيال الأولى التى إلتحقت بالتعليم بعد إفتتاح مدرسة في قريتنا ضمت كل باحث عن التعليم في سبع قرى مجاورة.
بعد إكماله لمرحلة التعليم الإبتدائي بمدرسة قريتنا-وهي نفس المدرسة التي إلتحقت بها في أول دخولي للمدرسة إلى أن تحولنا لأخرى بعد زلزال التسعينات- إلتحق بالمدرسة الإعدادية بالمركز-والتي كان الذهاب إليها على الأقدام ولمسافة تقارب العشرة كيلو مترات- ثم أنهاها وذهب إلى البندر مع أحد الأقارب المقيمين هناك وبعد سنوات في أعمال متفرقة عمل كسائق لعربة إسعاف وقد أجاد معظم الإسعافات الطبية الضرورية.
من عاصروه في جيله ومنهم أطباء قالوا أنه كان عبقري ولو سمحت له الظروف بدراسة الطب أو العلوم لصار طبيب مشهور أو عالم كبير.
..
ذهل أهل القرية جميعهم ذات يوم عندما رأوا عوض غير ذاك الشاب الأنيق الذي إعتادوا رؤيته في الأجازات التي كان يأتي فيها إلى القرية، إذ أنهم رأوا بدلا منه شاب مجذوب رث الثياب منكوش الشعر هائم النظرات.
منذ ذاك اليوم بدأت حملات التكهن للوصول لسبب (لسعان مخ) عوض. البعض قال أنه بسبب مرض وراثي في العائلة فقد إنجن أحد جدوده بعد وصوله لسن الشباب وكان قبلها زين الرجال!
أما الأكثرية فقد جزموا بأن (عقله خف) من كثرة سماعه لحوارات عفاريت القتلى الذين كان يحملهم في عربة الإسعاف!
ولكن حتى اليوم لم يعرف أحد السر وراء ماحدث لعوض، وهل هو كان إختلال عقلي أم حالة نفسية كانت تحتاج فقط إلى تقويم ولم تجده، خاصة إنه رغم هيئته الرثة كان مازال برزانته ويعقل كل ما يقال له وما يقوله، ولكن الأكيد أنه كان ضيق الصدر في تعامله مع البعض وكان حازم في كلماته وأوامره، وأتذكر-فلم أره منذ سنوات طويلة وحتى وفاته ومعظم رؤيتي له كانت وأنا طفل- أنه كان صاحب إبتسامة ساحرة رغم شعر رأسه المنكوش وذقنه الطويلة.
..
أتذكر أننا -ونحن صبية صغار- كنا نراه دائم الجلوس في المقابر، وكنا نتعجب كيف أنه لا يخشى أن يطلع له عفريت، ثم جاءنا الجواب من سيدات القرية إنه أصلا بيروح التـُرب (المقابر) عشان يقابل العفاريت اللي جننوه!
ربما حينها كنا نمثل الخوف ونقول (يامه!) عندما نسمع هذا الكلام، ولكن بعد أن كبرنا، أو ربما أنا، بدأت أبحث عن تاريخ عوض وعن تاريخ هؤلاء المجاذيب وأسترجع مواقفي معهم وأتذكر-وأتعجب- كم كانوا حكماء في حواراتهم وكلماتهم.
..
منذ سنوات قريبة كان في القرية أحد المرضى وأردوا أن يضعوا له محلول، فذهبوا لأحد الأشخاص بالقرية والذي يعمل بالمستشفى المركزي ليضع له المحلول، ولكنه فشل في أن يجد له وريد ليضع فيه الإبرة فما كان منهم إلا أن إتصلوا بأحد الأطباء من أبناء القرية-وقد كان زميل عوض في الدراسة- والمقيم في المركز وأخبروه بالوضع وبأن الجميع فشل في أن يجد وريد يضع الإبره فيه وأنهم يريدونه ليقوم بهذه المهمة. فما كان من الدكتور إلا أن قال لهم إبعتوا لعوض وهو يركب له المحلول!
طبعا جادلوا كثيرا مع الدكتور خاصة أن عوض مجذوب من سنوات طويلة، ولكن الدكتور صمم بأنه الأقدر على فعل ذلك. ولم يكن أمام الجميع إلا الإنصياع لرأي الدكتور وذهب أحد الرجال ليطلب من عوض، في مقره الدائم في المقابر، أن يأتي ليركب المحلول لفلان الفلاني المريض، وبالفعل أتى عوض وسط ذهول الجميع، بثيابه الرثة وهيئته المنعكشة، مرفوع الرأس بكبرياء وفي عينيه نظرة تشبه نظرة الإحتقار ودخل على المريض وليزيد من حيرة الجميع أمرهم جميعا بالخروج وطلب ماء ليغسل يديه. وركب للمريض إبرة المحلول بوريد في رقبته وجلس بجانبه حتى نفد المحلول وإطمئن عليه ثم خرج إلى مقره الدائم بالمقابر.
بل لقد كان عوض (مُسْعِف) ماهر ومُدرب وليس مجرد سائق ينقل الجرحى والقتلى.
مات عوض منذ سنوات قريبة عن سن كبيرة، ولقد ولد وعاش بشكل طبيعي وتميز من ضمن من تميزوا من الأجيال الأولى التى إلتحقت بالتعليم بعد إفتتاح مدرسة في قريتنا ضمت كل باحث عن التعليم في سبع قرى مجاورة.
بعد إكماله لمرحلة التعليم الإبتدائي بمدرسة قريتنا-وهي نفس المدرسة التي إلتحقت بها في أول دخولي للمدرسة إلى أن تحولنا لأخرى بعد زلزال التسعينات- إلتحق بالمدرسة الإعدادية بالمركز-والتي كان الذهاب إليها على الأقدام ولمسافة تقارب العشرة كيلو مترات- ثم أنهاها وذهب إلى البندر مع أحد الأقارب المقيمين هناك وبعد سنوات في أعمال متفرقة عمل كسائق لعربة إسعاف وقد أجاد معظم الإسعافات الطبية الضرورية.
من عاصروه في جيله ومنهم أطباء قالوا أنه كان عبقري ولو سمحت له الظروف بدراسة الطب أو العلوم لصار طبيب مشهور أو عالم كبير.
..
ذهل أهل القرية جميعهم ذات يوم عندما رأوا عوض غير ذاك الشاب الأنيق الذي إعتادوا رؤيته في الأجازات التي كان يأتي فيها إلى القرية، إذ أنهم رأوا بدلا منه شاب مجذوب رث الثياب منكوش الشعر هائم النظرات.
منذ ذاك اليوم بدأت حملات التكهن للوصول لسبب (لسعان مخ) عوض. البعض قال أنه بسبب مرض وراثي في العائلة فقد إنجن أحد جدوده بعد وصوله لسن الشباب وكان قبلها زين الرجال!
أما الأكثرية فقد جزموا بأن (عقله خف) من كثرة سماعه لحوارات عفاريت القتلى الذين كان يحملهم في عربة الإسعاف!
ولكن حتى اليوم لم يعرف أحد السر وراء ماحدث لعوض، وهل هو كان إختلال عقلي أم حالة نفسية كانت تحتاج فقط إلى تقويم ولم تجده، خاصة إنه رغم هيئته الرثة كان مازال برزانته ويعقل كل ما يقال له وما يقوله، ولكن الأكيد أنه كان ضيق الصدر في تعامله مع البعض وكان حازم في كلماته وأوامره، وأتذكر-فلم أره منذ سنوات طويلة وحتى وفاته ومعظم رؤيتي له كانت وأنا طفل- أنه كان صاحب إبتسامة ساحرة رغم شعر رأسه المنكوش وذقنه الطويلة.
..
أتذكر أننا -ونحن صبية صغار- كنا نراه دائم الجلوس في المقابر، وكنا نتعجب كيف أنه لا يخشى أن يطلع له عفريت، ثم جاءنا الجواب من سيدات القرية إنه أصلا بيروح التـُرب (المقابر) عشان يقابل العفاريت اللي جننوه!
ربما حينها كنا نمثل الخوف ونقول (يامه!) عندما نسمع هذا الكلام، ولكن بعد أن كبرنا، أو ربما أنا، بدأت أبحث عن تاريخ عوض وعن تاريخ هؤلاء المجاذيب وأسترجع مواقفي معهم وأتذكر-وأتعجب- كم كانوا حكماء في حواراتهم وكلماتهم.
..
منذ سنوات قريبة كان في القرية أحد المرضى وأردوا أن يضعوا له محلول، فذهبوا لأحد الأشخاص بالقرية والذي يعمل بالمستشفى المركزي ليضع له المحلول، ولكنه فشل في أن يجد له وريد ليضع فيه الإبرة فما كان منهم إلا أن إتصلوا بأحد الأطباء من أبناء القرية-وقد كان زميل عوض في الدراسة- والمقيم في المركز وأخبروه بالوضع وبأن الجميع فشل في أن يجد وريد يضع الإبره فيه وأنهم يريدونه ليقوم بهذه المهمة. فما كان من الدكتور إلا أن قال لهم إبعتوا لعوض وهو يركب له المحلول!
طبعا جادلوا كثيرا مع الدكتور خاصة أن عوض مجذوب من سنوات طويلة، ولكن الدكتور صمم بأنه الأقدر على فعل ذلك. ولم يكن أمام الجميع إلا الإنصياع لرأي الدكتور وذهب أحد الرجال ليطلب من عوض، في مقره الدائم في المقابر، أن يأتي ليركب المحلول لفلان الفلاني المريض، وبالفعل أتى عوض وسط ذهول الجميع، بثيابه الرثة وهيئته المنعكشة، مرفوع الرأس بكبرياء وفي عينيه نظرة تشبه نظرة الإحتقار ودخل على المريض وليزيد من حيرة الجميع أمرهم جميعا بالخروج وطلب ماء ليغسل يديه. وركب للمريض إبرة المحلول بوريد في رقبته وجلس بجانبه حتى نفد المحلول وإطمئن عليه ثم خرج إلى مقره الدائم بالمقابر.
بحب جدا يا احمد قصصك عن البلد و عن شخصياتها
ردحذفبحس انك بتحبهم و مربوط معاهم فى نفس الفرع
لازم تكثر من هذه الحكاوى لانها صادقة و ممتعة
كل سنة وانت طيب
تحياتى
في اعتقادي ان اغلب المجاذيب اناس وضع عقلهم يده علي الحقيقة فاذهب عن الواقع
ردحذفتسلم ايدك مكتوبة بصدق
احيانا صديقى افكر فى هذا فاقول يبدو ان كثرة التفكير ستوردنا هذا المورد يوم ما ولكنى ابتسم واستعيذ بالله من هذا وتجدنى احادث نفسى قائلا " طب دول كانوا عباقره انما انت ايه بقى يا فسله وسط النخيل وابتسم "
ردحذفعارف يا صاحبى موضوع المجازيب فى قرانا ومدننا ده موضوع محير
ولا اجد تعليقا ادبيا على ما خطته اناملك سوى انها قصة قصيرة من الابداع
تحياتى
ممكن يكون السبب عدم قدرتهم على تحمل الواقع أو واقعه معينه
ردحذفوالجميل أنك تعرض حاله منهم بهذا الأسلوب الرائع
ودمت بخير حال وبتأمل
ردحذفعوض حديث البلد فى اناقته و فى حالته الرثة ، انتظرت فى النهايه بعد ان قدمت عوض كما ظهر فى اعين البلد فى صورة المجذوب ان تقوم بنفى هذه الصفه التى اثبتت عدم صحتها عجز الاطباء عن تعليق المحلول للمريض و نجاح عوض فى ذلك ، هذا اكثر انصافا ، او ربما اخترت عدم ذكر ذلك لان القارئ لابد ان خرج من القصه بهذا الخاطر ، لا يجب ان ننظر نحن اهل البلد لعوض على انه مجوب لقد ثبت انه الاجدر ، ربما مجذوب واحد يمكنه تغيير الوضع
انا نفسي افهم
ردحذفبرغم اني اكبر منك بس مش افتكر الكلام ده خاااااالص
بس افتكر ان بابا مكانش بيخلينا نخرج شعان كدة معرفش الناس دي
بس بحاول اعرف البلد منك انت يا حبيبي ...
تعرف يا احمد بجد كل مرة بتحكي عن البلد بحس اني بشوفها من جديد