الخميس، يوليو 26، 2012

الشيـخ فكـــــري (1)


   دوما ترتبط بالمكفوفين نوادر من الصعب جدا أن تحدث إلا معهم،و قد كان الشيخ فكري واحدا منهم ، فنوادره التي يتحاكى بها الجميع، تجد فيها إما موعظة تجعلك تقول سبحان الله، فهو لا يأخذ من العبد شئ إلا و يعطيه في مقابله أشياء وأشياء، و إما إنشراح، فصعب جدا أن تسمعها و لا تضحك من كل قلبك حتى تشعر بأن هناك في الحياة مازال يوجد شئ جميل !!
عشت معه بعض تلك النوادر بعد أن سمعت منها الكثير و الكثير، فالشيخ فكري ذلك الشخص الكفيف، كان في إستطاعته أن يقطع وحده الطريق من بيته إلى الطريق العمومي ليستقل سيارة الأجرة ليذهب إلى المعهد الديني في المدينة حيث يعمل أستاذا للغة العربية و بعض المواد الفقهية، فقد كان يقطع الشوارع بتعرجاتها و تعددها و تناثر بيوتها بكل سهولة و إحترافية حتى أنه كان يتفادى بعض النقاط المشهورة بوجود حفرة أو مستنقع ماء أو ماشابه بكل سهولة و هو ما قد لا ينتبه له العديد من المبصرون و ينالوا جزاءهم لقاء ذلك،سقطة توجعهم أو ماء قذر يغطي ملابسهم !!
كان يعلم أين يقف على الطريق و يشير إلى السيارة القادمة، لم يكن هذا هو العجيب، فالعجيب- بل العجيب جدا- هو أنه كان لا يشير إلا للسيارة التي لا يركب فيها أحد بجوار السائق ليركب هو بجانبه، و كل من تابعوه و راقبوه طوال سنوات عجزوا عن معرفة كيف يعرف السيارة التي يركب فيها أحد بجوار السائق من تلك التي لا يركب فيها أحد بجوار السائق !!
...
ذهبت و أنا صغير إلى كُتابه لأحفظ ما تيسر من القرآن، كنت أنا و رفاقي في بدايات التعليم الإبتدائي، نذهب إلى بيته صباحا و ننتظره خارج البيت حتى يستيقظ، و قد كان قد أنهى عمله في المعهد و تفرغ للقراءة في المأتم و تحفيظ القرآن، فيستيقظ و يخرج إلينا أمام البيت فيفرش- و أحيانا لا - بساط صغير يجلس عليه و نفترش نحن من حوله الرمل الناعم.
كان ما يذهلنا جميعنا هو كيف يعرف أن أحدنا يغش من المصحف و هو يُسمّع لنا ما هو مفروض أننا قد حفظناه !!
فقد كان يعلم ذلك جيدا و كأنه يرانا،و كان يقول لي :
يا واد يا أبوصالح إوعك تغش..شايفك !!
ربما كان أمتع يوم قضيناه عنده هو ذلك اليوم الذي جاء فيه أحد الأطفال المبتدئين الأصغر منا سنا،فبدأ يحفظه قِصار السور،و بدأ بسورة الإخلاص،و قال للولد :
قول ورايا،
قل هو الله أحد
- فيرد الولد وراءه:
هو الله أحد 
- فيكرر الشيخ فكري :
قل هو الله أحد !
- فيقول الولد :
هو الله أحد !
و نحن طبعا نكتم ضحكاتنا من حوله، فقد كان موقف مضحك جدا،منظر الطفل البرئ و هو يردد بحماس : هو الله أحد !
و منظر الشيخ فكري الذي قد بدأ الضيق يهاجمه،و لكنه تماسك و قرب الولد إليه أكثر و قال له ثانية :
قول ورايا ، قل هو الله أحد
فأنتظر الولد للحظات أعطت الشيخ فكري بعض الأمل و لكن الولد بعدها نطق :
هو الله أحد !
و هنا تمالك الشيخ فكري أعصابه،و كانه قد خطرت له فكره، فيبدو أن الصغير يعتقد أن ( قل ) في أول الكلام أمر له ليقول و ليست جزء من الأيه و عليه فهو يتخطاها و يقول : هو الله أحد !
- فقال الشيخ فكري هذه المرة و عنده أمل كبير :
قل قل هو الله أحد !
- فنطق الولد :
قل هو الله أحد !
فهلل الشيخ فكري مسرورا و هللنا جميعنا وراءه !!
...
ذات يوم - وقد كنت وقتها مازلت صغير - رأيته يمر من على الطريق أمام بيتنا وحده، فجريت إليه و سلمت عليه وسألته :
رايح فين يا شيخنا ؟
فأجاب رايح أولاد سلامة، ثم استطرد ، ما تيجي توصلني يا أبوصالح !
فرددت :
دا أنا خدامك يا شيخنا !
فرد :
الله يبارك فيك،وشبكت ذراعي في ذراعه و انطلقنا، فسألني :
تعرف دار فلان الفلاني ؟
- فرددت :
لا و الله يا شيخنا
- فرد :
ولا يهمك أنا عارفها !!
و كنت وقتها قد تخطيت مراحل التعجب و الذهول، فأنطلقت معه في الطريق بإتجاه وجهتنا التي يعرفها هو، و إذا كان المفروض هو أنني من يقود المسير لأنني المبصر ففي واقع الأمر هو من كان يقودني رغم أنه هو الكفيف !!
...
كي لا أُطيل نكمل المشوار مع الشيخ فكري بالغد إن شاء الله و نقص نادرة يحكيها هو عن نفسه.

هناك 10 تعليقات:

  1. ههههههههههههههههه
    اولا كل سنة و انت طيب

    جميلة ذكرياتك والاجمل تلقائيتك

    السر فى البصيرة وهى اغلى من البصر

    تحياتى

    ردحذف
    الردود
    1. و انت طيب و بألف خير و سلامة يا أستاذ إبراهيم..أشكرك على كلماتك الجميلة..و طبعا كما قلت السر في البصيرة..تحياتي و احترامي

      حذف
  2. بتبقى شخصيات مذهلة فعلا
    فكرتني بتجربة مشابهة جدا معايا.. بس أنا شيخي كان اسمه مصطفى الله يرحمه..

    ربنا من عدله بيجعل للناس دي بعض الخصائص التي تعوضهم عن تلك التي لم يعطها لهم ..

    إنه العدل المطلق يا صديقي

    تحياتي ومتابع نوادر الشيخ فكري

    ردحذف
    الردود
    1. هي فعلا شخصيات مذهلة يا ضياء، ربنا يجزيهم كل الخير..و هو فعلا عدل الله فهو دوما يعوض الشخص بإعطاءه أضعاف ما أخذ منه..تحياتي يا صديقي

      حذف
  3. تصدق ولا مرة يا احمد كان لي كلام مع الشيخ فكري ؟!!
    يستثني منها طبعا المرات اللي كان بيجي عندنا يسأل علي بابا
    لكن مفيش موقف مر معايا معاه ابدا
    برغم ان كان نفسي اتعرف عليه اكتر
    وكل يوم وانا رايحة الشغل بعدي علي بيته وبسمعه وهو بيحفظ القرآن واتمني لو تتاح لي فرصة

    ردحذف
    الردود
    1. أنا كمان دلوقت نفسي تتاح لي فرصة وأروح أقعد معاه و هو بيحفظ القرآن للأولاد الصغيرين !!
      و هو ما عدش بيمشي كتير في البلد زي زمان..ربنا يبارك في صحته.

      حذف
  4. ما شاء الله
    اللى مش بيشوف هو اللى بيقود اللى بيشوف
    سبحان الله
    صحيح ربنا بيعوض كتييييييير أوى بس احنا اللى مش بناخد بالنا ومش بنحمده
    الحمد لله

    دايما حكاياتك رووعة وفيها عبرة

    ردحذف
    الردود
    1. سبحان الله..هذا هو عدل الله و حمكته،و فعلا إحنا اللي مش بناخد بالنا و مش بنحمده ( و قليلا من عبادي الشكور )
      ..أشكرك يا مروة..تحياتي

      حذف
  5. متأخرة كالعادة لكن لا باس ..

    أولا أعجبني جدا أسلوبك في عرض حكايتك مع الشيخ فكري ..

    و معك حق ، الله لا يغلق باب حتى يفتح أبواب
    فمن حرم من البصر أو السمع أو أو أو تجد لديه ميزة خاصة ليست عند الناس الطبيعيين ..

    سبحان الله

    ردحذف
    الردود
    1. كالعادة متميزة في حضورك سواء أكنتي الأولى أو الأخيرة،و صدقيني أنا أعرف مشغولياتك و أعذرك و أعذر كل الأصدقاء فلا تجعلي شئ كهذا يقلقك..و فعلا كما عبرتي انت، الله لا يغلق باب الا و يفتح في مقابله أبواب..و يعوض أضعاف ما يأخذ..
      تحياتي إيمان

      حذف

فضفض و قول اللي في ضميرك
مشتاق صديقك لأي قول