الجمعة، يوليو 06، 2012

رصاصة من أعماق الروح



  كعادته استيقظ قبل أن يرن المنبة معلنا أن وقت الإستيقاظ  قد حان،فهناك رنات ألف منبة تمنعه من النوم طوال الليل فهل ينتظر رنات منبة الصباح كي توقظه ؟!
...
كعادته منذ أيامه الأولى بعد قدومه ليسكن في هذه الحارة، يخرج من غرفته الواقعة أعلى سطح إحدى البنايات العتيقة في الصباح الباكر و قبل الشروق بعد أن يكون قد أدى فروض صباحه،يخرج بخطواته الخفيفة و صوتها الخافت،حتى ليفزع من يسير أمامه في شوارع هذه الحارة الضيقة عندما يتخطاه فجأة و بكل صمت و هدوء كأنه شبح أو روح هائمة..
و لأنه كان زبون يومي عند عم حسين صاحب عربة الفول على رأس الحارة،فقد تشجع ذات يوم و سأله بعض الأسئلة و قد مرت شهور بعد قدومه لهذه الحارة و سكنه بتلك الغرفة، سأله :
أنت منين يا ابني ؟
- نظر إليه و وجهه مجهول التعبيرات و أجابه :
من أرض الله الواسعة يا عم حسين..هات لي شوية ملح..ملحك مش مظبوط النهاردة لية ؟!!
...
كان الجميع تقريبا قد لاحظوا كل أفعاله التي تبدو غريبة تماما، مما فتح الباب على مصراعيه ليلقي كل من هب و دب بدلوه و يعرض تكهناته بشأن هذا الشخص العجيب، و لكن ما كانوا يستنكرونه جميعا، هو كيف تسمح الحاجة سميحة له بالسكن على سطوح بنايتها رغم أنها لا تعرف عنه شئ، و لكن البعض أكد أنها قد استراحت له، و انه يبدو ابن ناس و هذا يكفي لتؤجر له الحجرة !!
   
     عندما جاء أول يوم إلى الحارة لم يلاحظه الكثيرون، ولكن من رءاه أكد أنه قد جاء و ليس معه أي شئ يحمله أو في عربة تصحبه، و كان يرتدي جلباب صعيدي..أو ربما بحراوي..أو قد يكون جلباب برانسي !! و لكن المهم هو أنه بعد هذا اليوم لم يظهر إلا و هو يرتدي قميص و بنطلون مثله مثل سكان المدن..
حتى عندما حاول البعض التعرف عليه من خلال لهجته في الكلام و التي بكل تأكيد ستفصح عن مكان نشأته و عن محافظته التي قدم منها،لم يستطيعوا، فقد كان قليل الكلام جدا، إلى جانب أنه كان يتحدث بكل اللهجات فتارة يقسمون أنه صعيدي،و بعدها يكتشفوا أنه إسكندراني أصيل،أما البعض فقد أكد أنه من النوبة على  الرغم  من لون بشرته الفاتح !!
..
يقولون أنه لم يعد يتلفت حوله مع كل خطوة يخطوها مثلما كان يفعل في أيامه و سنواته الأولي في المنطقة،فقد كان يتلفت حوله كمن ينتظر أن يهجم عليه أحد ليقتله..أو أن تخرج له عربة من إحدي النوافذ،التي تساوت تقريبا بأرض الشارع، و تصدمه !!
لم يعلم أحد أبدا أين يذهب كل يوم في هذا الصباح الباكر و لا يعود إلا بعد المغرب، خمن الجميع أنه لابد و أنه يذهب لعمله،و لكن أي عمل هذا ؟ أهو موظف؟ و لكن رفض الجميع هذه الفكرة فلو أنه موظف لعاد في ميعاد أبكر من ميعاده الذي يأتي فيه،و للاحظوا في يده أي دوسيهات أو أوراق أو ما يشبهها فهو دائما يخرج و يعود خالي اليدين !!
البعض- و هم من يعتقدون أنه صعيدي هارب من الثأر- أكدوا أنه أكيد مثله مثل كثيرين غيره يعمل في مجال البناء و ما شابهه..و رغم أن نظافة ملابسه تنفي هذه الفكرة، فإنهم أيضا لم يلاحظوا على يديه أي أثار تدل على أنه يعمل في هذا المجال !!
كثرت التكهنات مع كثرة ما يلاحظونه عليه من غموض، و لكنهم لم يستطيعوا أن يصلوا لشئ فكل تكهن كان يَظهر دليل يُظهر خطأه،و هو أيضا لم يدع لهم أي مجال ليسألوه في هذا الموضوع أو في أي موضوع أخر، فلو أنه مثلا يجلس معهم على قهوة المعلم عبد الله شكشوك لكان هناك مجال لسؤاله و التعرف عليه أكثر، ولكنه كان يعود مساءا فيقضي ليلته بغرفته و لا يظهر في الشارع بعدها إلا في الصباح الباكر لليوم التالى ذاهبا إلى المكان الذي يجهله الجميع !!
...
بدأ البعض يشفقون عليه،بعد أن كان غيظهم قد بلغ أقصاه من تلك الهالة من الغموض التي تحيطه..
فهو يبدو عليه دوما الحزن و الرعب، يبدو كالتائه أو المجذوب، محروم من كل شئ، لا يسمح لنفسه بأي ترفية، حتى في أيام الأعياد كان يقضي نهاره و ليله بغرفته ..وحيد لا أسرة و لا أصدقاء..يقسم البعض أنه رءاه مرة يدير رأسه و قد وضع يديه ليغطيها و مال إلي الأرض كأنه يتفادى ضربة شومة أو رصاصة من بندقية، و لم يكن هناك شئ  على الإطلاق !!
ربما لو إستطاع أحدهم الولوج لأحلامه..أو الأصح كوابيسه لأستطاع أن يفهم الوضع و لأتضحت له الرؤية..
فقد كان يموت في الليلة عشرات المرات،و لكنه كان متيقن أن موت الليل هذا الذي يستيقظ منه في الصباح حي،سيزوره مرة بالنهار و ستكون النهاية،ربما جعله هذا يعيش في رعب،كان رعبه لا يقل أو يتزعزع حتى و إن خفت أو قلت تلفتاته و هو في الشارع،أو نظرات عينه الزائغة، فقد كان قلبه يتلفت،و كانت روحه ترتعب من كل صوت يدوي من حوله،أو حتى من وقع خطوات خلفه..
     عندما تقبض بيديك على القضبان الحديدية لسجنك الضيق،يتزايد أملك بأنك يوما ما ستحطم هذه القضبان و تخرج هربا للعالم الفسيح،و لكن عندما تمتد أسوار سجنك لتلامس أطراف الأرض و لتعانق آفاق السماء يصبح الهروب مستحيل.
...


    عندما جاء رجال الشرطة لمكان جسده الممد على الأرض و مغطى بورق الجرائد في أحد الشوارع،أكد شهود العيان أنهم سمعوا صوت طلقة بندقية أو مسدس-إتضح بعدها أنه كان صوت صاروخ أطلقه أحد الأطفال الأشقياء- ثم وجدوه قد إهتز بشدة و دار حول نفسه و هو واقف ثم وقع على الأرض،أعتقدوا أن الرصاصة هذه قد أصابته،فجروا ناحيته و التفوا حوله،جس البعض نبضه و أكد أنه قد مات، و لكن ما استغربوا له جميعا أنه لم يكن به أثر لأي رصاصة..و لا حتى أي أثر لأي خدش بسيط !!
...
....

هناك 6 تعليقات:

  1. جميلة ماشاء الله استاذ احمد
    فعلا شدتني حتي النهاية لاعرف السبب
    بارك الله فيك

    ردحذف
  2. رائعة بحق سيدي
    أجمل مافي القصة ان تستطيع ان تلفت بها الانظار وتلفت الانتباه
    جميلة جدا
    دمت بود ودمت رائعا....تحياتي

    ردحذف
  3. سجين جوه نفسه قتله الرعب اللي معشش جواه

    العنوان اسمحلي يا أحمد أقول إنه أجمل ما في القصة ..

    فعلا ممكن رصاصة الموت تخرج من جوه الروح نفسها .. عنوان عبقري

    تسلم إيدك بجد

    دايما بالتوفيق

    ردحذف
  4. حاجة وحشة أوى ان الناس تفضل تحط احتمالات كتير لغموض شخص ويبقوا متغاظين منه علشان مش بيساعدهم انهم يقللوا الاحتمالات ديةوبرده مهما عمل هيفضلوا يقولوا عنه غامض ووراه حاجة
    مكانوا سابوا الراجل فى حاله .. أهو مات من الرعب والخوف

    عنوان القصة رووعة
    ووصفك جميل جدا للغموض والتنقل فى احساس الناس من الغيظ للشفقة
    والنهاية منطقية جدا لانسان استسلم للخوف يدمره ببطء
    دايما ماشاء الله عليك مبدع فى خيالك واحساسك وكتاباتك

    ردحذف
  5. ان تحيا غريبا و تموت بغرابة فيتعجبون من حياتك و يتعجبون اكثر من موتك لتصير انت لغز الالغاز
    بسم الله ما شاء الله
    كتبتها بروعة و قدرة فائقة
    دمت مبدعا يا صديقي

    ردحذف
  6. مساء الغاردينيا احمد
    ماشاء الله تبارك الرحمن
    مااروع وصفك وسردك كتبتها بروعة
    مؤلمة حياة ذلك الرجل الذي جعل الرعب يطارد حياته
    حتى اودت به روحه الخائفة "
    ؛؛
    ؛
    لروحك عبق الغاردينيا
    كانت هنا
    Reemaas

    ردحذف

فضفض و قول اللي في ضميرك
مشتاق صديقك لأي قول