الاثنين، يوليو 16، 2012

عَـــرق



   خرج من باب الشقة و هو يجفف عرقه،فقد أخذ دش و غير ملابسه لمرتين و هو لم يغادر باب الشقة بعد، ولكن عندما أحس و رأى الغضب في عيني زوجته من مجرد تلميحه للدش الثالث و الغيار الثالث، قصر الشر و خيب أمل الشيطان الذي كان سيفرح جدا عند إنفجار خناقة بينه و بين زوجته في هذا الصباح الباكر !!
حسد أطفاله، فهم في أجازة و ليس هناك مدرسة و مازالوا نائمون،و هذا صراحة مستحيل- أي النوم- في هذا الجو الصيفي الفظيع الذي تساوى في شدة حرارته بين الليل و النهار، ففي كل الأوقات لا يتوقف الجسم عن إفراز العرق،و لكن ربما نومهم هذا بفضل التكييف الذي إشتراه من أجلهم بالقسط من أحد محلات الأجهزة الكهربائية بواسطة زميل له في العمل، ولكن هذا لم يمنع صاحب المحل أن يأخذ عليه شيكات بالمبلغ المتبقي، حتى إذا تأخر في السداد ،قبض من مرتبه مباشرة !!
خرج من باب الشقة فإذا بالحاج محمد جاره في وجهه،هو لم يكن في الأساس من هذه المنطقة و لكنه كان انتقل للسكن فيها منذ سنوات تنخطى العشر،عندما تزوج و غادر بيت عائلته الذي يسكنون في منطقة أخرى لا تبعد عنهم الكثير..
ألقى عليه الحاج محمد التحية بصوت هادئ يتناسب مع حجم جسده الصغير و سنوات عمره التي تقارب السبيعن و صبّح عليه ثم سأله :
ألا يا أستاذ إبراهيم هما مش هيهزوا معاش السادات شوية ؟
و لا هيسيبوه ملاليم كدة زي ما هو ؟
- رد :
و الله ربنا يسهل يا عم محمد، أهو خير للكل..إحنا سامعين أخبار بس لسة مش عارفين
همهم الحاج محمد، ثم قال :
طيب ما أعطلكش أنا على شغلك بقى..بس ليا طلب صغير !!
- رد و هو يجفف عرقه من على وجهه بمنديل ورقي ثم يمرر يده داخل قميصه القطني أزرق اللون ليمسح صدره و تحت إبطيه :
أأمر يا عم محمد
- رد الحاج محمد :
ربنا يخليك، عاوزك بس توصي عليا زميلك الأستاذ عبد الحميد، أصل زي ما أنت عارف أنا تعبان و يوم ما بأروح عشان أقبض بأقف في الطابور كتير،و ما بالأقيكش هناك، بيقولولي بيحصّل، فوصيه بس ما يوقفنيش في الطابور كتير !!
فرد و هو مبتسم :
حاضر يا عم محمد..عاوز أي خدمة تانية ؟
فرد عليه :
لا يا ابني ربنا يخليك و يقويك..مع السلامة
...تركه و قد استغرب أن وجهه-أي الحاج محمد- لم تظهر عليه حبة عرق واحدة، ليبدأ رحلة نزول السلالم و ما ستغرقه فيه من عرق !!
...
كان يعلم أن شارع الحارة الضيق سيكون ظليل و سيحميه من الشمس قليلا و لكنه كان يعلم أنها خطوات و سيغادره إلى الشارع الرئيسي الواسع الذي لا يوجد به أي ظل لمنزل أو عمارة،و لا يوجد به حتى شجرة توحد ربها و كأن المحافظة قد نست هذه المنطقة من خطة تشجيرها فقط من أجله..من أجل أن ينهش جسده و ملابسه العرق !!
كان يخرج مبكرا كي يتلافى زنقة المواصلات في الحر بعد إرتفاع الشمس، ولكن ماذا يفعل و الشمس هذه الأيام تشرق في الرابعة و تبدأ رحلة حرقها لبني البشر مبكر جدا،أشار لأحد الميكروباصات فوقف له، و لكنه وجده تامم الركاب، لم يستغرب فهو يعرف الجملة التي سينطق بها الكمسري الان :
اشبط يا استاذ العجلتين دول، في ناس نازلة الشارع الجاي !
و لكنه لم يعط الفرصة للكمسري لينطق، ولم ينطق هو فربما الكلام يزيد عرقه،فأشار للكمسري بما معناه إذهب لن أركب !! و ربما لو نطق لكان خير له ، فهَزّة كفه و ذراعه هذه قد كلفته الكثير و أغرقته في المزيد من العرق !!
توقف قليلا،و فكر أن يخرج أحد دفاتره من حقيبته الجلدية و يظلل به على رأسه و وجهه، فليس هناك على الطريق ما يستظل به، ولكنه تراجع، فذراعه بجانبه أفضل منها مرفوعة فوق رأسه، فهذا معناه عرق أكثر !!
أشار لميكروباص اخر و لكنه لم يتوقف،فكر أن يلعن السائق،و لكنه احترمه عندما وجد الميكروباص مزدحم و هذا سبب عدم وقوفه، انتظر قليلا، و أخيرا توقف له ميكروباص و به كنبة كاملة فارغة !!
أه، ربما القدر يصالحه بأن يجازية بمنحه مقعد له وحده بعيدا عن الزحمة و الزنقة و إنتقال العرق بين الركاب و بعضهم البعض !
و لكن القدر لم يعطه تقريبا أي وقت ليستمتع بهذه المنحة، فقد سحب هذه المنحة بعد أمتار قليلة و منَّ عليه بثلاثة ركاب دفعة واحدة !!، ولأن المفروض أن المقعد لثلاثة أنفار فقط،و المفروض و في ظل هذا الصيف الحارق بحرارته المتلظية أن يتقاسم الكرسي إثنان وفقط ، فقد بادر الكمسري بعدما ركب اثنان بجانبه و بقى الثالث على الأرض و قال :
وسعوا يا جماعة للأستاذ ده بدل ما نسيبه واقف في الحر كدة تحت الشمس غرقان في عرقه !!
و أكيد وراه شغل و عنده مصالح !
و لأنه كان بجانب الشباك- الذي لا يجلب هواء بل يجلب حرارة!-كان يعلم أنه سيصبح و صاج العربة قطعة واحدة، فبميكانيكية إعتادها الجميع تزحزح كل شخص ليلتصق بمن بجواره أكثر،لتتداخل الملابس و الأجسام و الأنفاس، ليفسحوا بجانبهم شِبر للراكب الرابع ليحتله، ليغوصوا في بحر العرق متلاصقين !!
...
وصل المصلحة بعد رحلة طويلة شاقة،و معركة شرسة،فمن يراه وقد غطى العرق كل قميصه،وربما بنطاله أيضا يظنه قد خرج لتوه من البحر، أو صبّحت عليه إحدى السيدات بجردل ماء غسيل من البلكونة، فهذا أضخم و أفظع من أن يظن من يراه أنه عرق !!
كان عليه أن يصعد خمسة طوابق حتى يصل لمكتبه، فكر جديا من كثرة ما أصابه من عصبية و ضيق أن يعود أدراجه للبيت،و يصعد سلم البيت بدلا من صعوده و هبوطه لهذه الأدوار الخمسة،و خاصة أن ملابسه أصبحت مزرية، فهو يحتاج لدش و غيار نظيف..حتى لو كلفه هذا خناقة مع زوجته تنتهي بالطلاق !!
و لكنه بعد أن جلس على عتبة من عتبات المصلحة،تحت ظل شجرة يتيمة زرعوها و نسوا أن يحيطوها بأسرة تشعرها بالأمان !
 فكر في زوجته و أشفق عليها، فمهمة الغسيل فعلا قد تخطت كل حدود التحمل و الإحتمال، فهي عليها أن تغسل عشرات الغيارات له و لأبنائهم الثلاثة يوميا، و مع هذا مازالت زوجته صامدة !!
...التقط أنفاسه و أحس ببعض البرودة تتسلل لملابسه الداخلية،فقد تشبعت بالعرق و عندما جلس في هذا المكان الظليل بردت حبات العرق داخلها..و لكنها-حبات العرق- مازالت تنبع ملتهبة على جسده !!
إستجمع قوته و صبره،و بدأ رحلة الصعود..
ربما كان الوقت مازال مبكر و لكنه وجد بعض الأشخاص في انتظار وصول الموظفين،فكر ساخرا :
يبدو أنهم قد قضوا ليلتهم هنا !
و لكنه إستحسن الفكرة،فلو أن بإستطاعته المبيت هنا لأرتاح من حرب الصباح اليومية هذه، بزحمتها و حرقة أعصابها...و بعرقها أيضا !
كان الجو خانق و يبدو مظلم،و كان هو قد ناله ما ناله من بحور العرق طوال رحلة صعوده لهذه الأدوار الخمسة،كان يبدو من مشيته و معرفته للطريق بطول هذه الطرقة الطويلة الضيقة،و الأبواب المفتحة لغرف الموظفين أنه موظف،فأوقفه أحد الأشخاص و سأله :
و النبي يا أستاذ هو مكتب الأستاذ حمدي عبد الفتاح فين ؟
كان رغم كل ذلك دمث الخلق، وصبور جدا في معاملته مع الناس الذين قد يخنقونه و يزيدوا عرقه بأستفساراتهم و أسئلتهم المتكررة و لكنه كان يتحمل،و رغم البرود الذي ادعى انه أكتسبه، لم يكن هذا أبدا كافيا ليحميه من العرق !!
وحده العرق هو ما يكرهه..و لكن يبدو أن العرق يعشقه حتى أنه لا يغادره أبدا..حتى تحت ماء الدش !
و عليه فقد رد عليه بعد أن نظر للخلف و الأمام كانه يحصي الأبواب المفتحة و مشيرا بيده :
المكتب اللي هناك ده..عِد خمس أبواب من الباب ده
و ترك الرجل و أكمل طريقه، ولكنه إستدار بعد خطوات قليلة و قد تذكر شئ فقال للرجل و هو مكانه لم يرجع له-فهذه الخطوات ستكلفه المزيد من العرق - :
بس الأستاذ حمدي مش هيجي النهاردة المصلحة، لأنه النهاردة تحصيل
...تحصيل !!
رنت الكلمة في أذنيه !
يبدو أن الحر و العرق قد أذابا ذاكرته و أفكاره و حتى وعيه أيضا !!
فلو كان في وعيه لوفر على نفسه نصف رحلة عذابه هذه..بل لوفرها كلها تقريبا !
فالحاج محمد قد ذكر كلمة تحصيل و لم ينتبه هو،و قطع كل هذا الطريق و صعد كل هذه الأدوار و السلالم التي لم يكن مضطر أبدا لقطعها، و غرق في وسط كل بحور العرق هذه و لم يتذكر أو يخطر على باله أنه هو أيضا مثل الاستاذ حمدي اليوم.... تحصيل !!
...
أجيبلك الشاي على المكتب يا استاذ إبراهيم ؟
قالها عم سعيد الفراش و هو يمر بجانبه و هو مازال واقف في الطرقة، و لكن ما تعجب منه عم سعيد أنه لم يرد عليه،كأنه لم يسمعه و لم يراه، وكأن أحدا أصلا غير موجود، فقد صار بإتجاه الخارج و هو يجفف عرقه بمنديل و يحدث نفسه بصوت مرتفع :
إيه يعني غلطت وجيت،هو مش التحصيل لف و دوران في وسط الشوارع؟!، ولا يكونش التحصيل شمسية و كرسي في الأرض الرملة على شط البحر !!
برضه لف وشمس و حر...و عرق...عرق..عرق!


....

هناك 7 تعليقات:

  1. والله صعب عليا
    وأحلى حاجة انه بيواسى نفسه
    ربنا يرحمنا من الحر الأيام دية

    رووعة يا أحمد
    افتقدت قصصك جدا
    متتأخرشى علينا
    فى انتظار جديدك دايما

    ردحذف
  2. صباح الغاردينيا احمد
    ومع كل كمية العرق تلك كان لايزال دمث الخلق ويتعامل مع الناس برقي فـ العرق أو الحر يجعل الانسان عصبي جداً :)"
    ؛؛
    ؛
    قصة رائعة لأنني فعلاً شعرت وكأنني أراه بكل تفاصيله ولست أقرأ فقط سردك رائع وجميل "
    ؛؛
    ؛
    لروحك عبق الغاردينيا
    كانت هنا
    reemaas

    ردحذف
  3. كان لازم ينسى.. ومعجزة أصلا انه لسه فاكر هو مين.. معجزة اسمها المصريين بكل تناقضاتهم العجيبة

    شايل جبل من المعاناة وبرغم كدة يقدر يعذر مراته ويساعد (الحاج محمد) ويكون دليل لأحد الأشخاص.. عبقرية إنسانية..

    أمثال الأستاذ إبراهيم ده بعتبرهم أبطال حقيقين

    دقة وصفك خليتني أحس بشدة الحر والزنقة .. يللا الله يسامحك D:

    تسلم إيدك وبالتوفيق دايما

    ردحذف
  4. ما تعلمته من القصة هو ما تعلمته من الحياة اننا نذرف الكثير و الكثير من العرق بلا طائل تتلوث ملابسنا و ربما ارواحنا بدون طائل
    روعة بجد كتبتها حلو
    تسلم الايادي

    ردحذف
  5. مش عارف ليه يا احمد حسيت انه ما كانش ناسى ولا حاجه موضوع التحصيل وانه كان عارف التحصيل معناه لف وشمس و حر...و عرق
    احسست فيها بقاعدة اخف الضررين
    تحياتى لسردك الذى ارانى القصه على ارض الواقع
    دمت متألق

    ردحذف
  6. قلمك راقى استاذ احمد
    يروق لى المتابعه دائما

    كل سنة وانت بكل خير وصحة ورمضان كريم

    ردحذف
  7. هههههههههههههههههههههه

    العرق ابتلاء من ربنا .

    الأيام دي الجو حر أووووف ، ربنا يحمينا من شر جهنم

    كنت هنا

    ردحذف

فضفض و قول اللي في ضميرك
مشتاق صديقك لأي قول