هُمَّا خمسة جنية مافيش غيرهم،الكيلو بإتنين ونص، يا تكملي لف في الحر بقى إنتي حُرة !!
قالتها السيدة لبائعة السمك التي كانت تحمل على ذراعها اليمنى وعاء بلاستيكي به بعض السمك الذي تبيعه.
سمعت بائعة السمك السعر الذي عرضته عليها السيدة ونظرت إلى السمكات في الوعاء وقد بدى عليها الأسى من ذلك الثمن البخس المعروض عليها،والذي لا يساوي أبدا مقدار تعب رَجُلها الصغير من الفجر حتى الظهيرة، فأعادت فرد قطعة القماش البالية المبللة بالماء-أو التي كانت-على السمكات كي تحميها من حرارة الشمس،وهنا فهمت السيدة أن السعر الذي عرضته لم يُعجب البائعة،فهَمَّت بالكلام وتوقعت البائعة أن ترفع السيدة السعر قليلا،و لكن ماحدث أن السيدة قد قالت :
إنتي حُرة،السمك كتير وأنا هانزل أجيب من على البحيرة!
فما كان من البائعة إلا أن خفضت رأسها في حزن ثم رفعته وقد أذعنت،وسألت السيدة : معاكي كيس ؟
- فأجابت السيدة بلهجة إنتصار :
لا، الدار أهِه ،هاتي وأنا أفضي السمك وأجيبلك المعجن1
...
- سيبيني أروح البحر!
كانت هذه أخر جملة نطقها في حُلمه بعد أن إنتبه على صوت أمه توقظه.
كان الفجر قد بزغ وبقي القليل من الوقت على أشعة النهار كي تنسكب على صفحة الكون، وهو في طريقه وحده إلى البحيرة، كان يحمل غلق به طعامه وبعض عدة صيده التي كان قد جلبها معه بالأمس إلى البيت لإصلاحها، أمه أيقظته متأخر قليلا هذا الصباح، لقد إعتاد أن يستيقظ وحده في ميعاده، و لكن البرد خارج المنزل قد جعل دفء الفراش يُسكره و يُذهب وعيه ويُنسيه ميعاد إستيقاظه، إلى أن أيقظته أمه، هو إبنها وراجلها بعد أن توفى أبوه في ليبيا إثر غرق المركب التي كان يعمل عليها، فما كان منه وهو الصغير الذي قد تخطى العاشرة بقليل إلا أن يتولى مسئولية المنزل ويذهب للصيد في البحيرة على الفلوكة التي تركها له أبوه، وما يخرج من صيده يعيش به هو ووالدته وأخوه الصغير.
كان الجو بارد، خاصة في تلك الساعة من الفجر، و الهواء رغم أنه يكاد يكون ساكن إلا أنه من وقت لأخر كان يهب صافعا وجهه بموجة باردة يتصلب من أثرها خداه، فهما تقريبا الجزء الوحيد الظاهر من وجهه فقد إرتدى فوق رأسه كَلَبوش2 صوف كانت أمه قد إشترته له من سوق الأربعاء، ولف حول رقبته وبقية وجهه كوفية أبيه الراحل، ولكن كان هناك أيضا جزء منه قد تصلب تماما تقريبا، إنهما قدماه وأصابعهما التي قاربت على التجمد من شدة البرد، فقد كان ينتعل حذاء بلاستيكي رخيص يظنه يجتذب البروده ثم يحقنها في قدميه!
تخطى الطريق الإسفلتي الفاصل بين البحيرة والبيوت، ثم نزل سور البوتن الخرساني الذي كان قد بُني ليحجز ماء البحيرة، ثم بدأ يقطع تلك الساحة الشاسعة التي تم تجفيفها بطول ساحل البحيرة، طغيانا وذبحا وتعذيبا لها، قالت له والدته أن ماء البحيرة في الشتاء كان يصل لمنزل الشيخ مصطفى، والذي يبعد عن منزلهم بما يقارب المائة متر، وهو ما تعجب له كثيرا خاصة وهو يرى البحيرة قد تم التهامها بهذا الشكل حتى أنه قد يأتي يوم وتنتهي وتمحى من الوجود، وفكر أنه ساعتها سيذهب حتما الى البحر ولن تستطيع وقتها أمه أن تعارضه، فلم يعد هناك بحيرة!
وصل شاطئ البحيرة أخيرا، كان أول ما أعتاد أن يفعله أول ما يصل إلى فلوكته هو أن يفحص مخبأها جيدا، فربما به شئ ما!
كان لا يخشى العفاريت ولا يتوقع أن يجد عفريت، و لكنه إعتاد أن يفعل ذلك وهو يضحك بعد أن سمع من أمه قصة قريبه الذي بعد أن كسع3 بفلوكته حتى تَوَّسط البحيرة، فإذا به يرى كلب ضخم يخرج له من مخبأ الفلوكة، ويبدو أنه كان قد قضى ليلته في دفء المخبأ ولم يخرج إلا بعد طلوع الشمس، وكان صاحبنا قد وصل إلى وسط البحيرة، كان قريبه هذا يخشى الكلاب جدا، وعندما رأى الكلب تمَلـَّكه الفزع وحاول أن يضرب الكلب بالمِدْرَة4 ليوقعه في ماء البحيرة ويتخلص منه, ولكن ماحدث هو أنه عندما هَمَّ برفع المِدْرَة حتى توقع الكلب ما سيحدث، فإذا به يزمجر بشدة،وكأنه قد لاحظ خوفه منه فأعاد الزمجرة ونبح بجنون وعنف!
فإذا بقريبه هذا يرفع يده للكلب ويقول بإستسلام :
لا تزوم ولا تلوم زي ماجبتك أوديك!5
ورجع به إلى الشاطئ!
..
إنطلق بفلوكته بعد أن تأكد من خلوها من أي كلاب وبعد أن جهزها وتأكد من تمام عدة صيده، ثم بدأ بالتوجه نحو مناطق معينة ليرمي فيه غزله6، كان نور الشمس قد بدأ يضفي حمرة على الأفق الشرقي للسماء معلنا عن إقتراب ميعاد الشروق، أما الأفق الغربي فقد كان ملبد ببعض الغيوم القليلة، فالجو رغم برودته لا ينبئ بسقوط أمطار، وسيكون حار في الظهيرة، كان قد إكتسب خبرة الصيادين في التنبؤ بحالة الجو، فبمجرد النظر في الأفق يستطيع أحدهم أن يعرف كيف سيكون الجو اليوم، بارد أم حار،أهناك امطار أم لا، هل سيكون هناك عواصف أم مجرد رياح خفيفة.
بدأت خيوط النهار تنسلخ من ستارة الليل الحالكة لتضفي على الدنيا حلة من نور وضياء، كان يشعر بالبرد ولكن المجهود الذي يبذله في التجديف قد أجرى الدماء دفاقة دافئة في عروقه ونضح دفئها على جسده فشعر بالدفء، وها هي الشمس قادمة ببهاءها ونورها وضياها لتدفئ وتنير أوصال الكون من حوله، كان يرى كثيرين من حوله كُلا في طريقه إلى مكان صيده، كان يلقى على بعضهم السلام وتحية الصباح وكان بعضهم يلقي عليه التحية، كان هذا هو المجتمع الأخر بعاداته ومصطلحاته وتحياته والذي لا يحياه إلا هم، مجتمع الماء وما يختلف به عن مجتمع الشاطئ، فهنا كل شئ مختلف وله طريقة ومذاق ومتعة أخرى، وإن كان هو رغم قبوله بهذا العمل والصيد في البحيرة، إلا أنه لم يتخلص من ذلك الحلم الذي يطارده، حلم الصيد في البحر.
وصل إلى مكان صيده وقد إرتفعت الشمس قليلا فوق خط الأفق وبدأت تنشر أشعتها على صفحة الماء الفضية لتزيدها سحرا وجمالا، كان يصطاد في مكان قريب من جزء قد نبت فيه البوص بشكل هائل، ذلك البوص الذي قد بدأ يطغى على البحيرة من الداخل ويقابله الناس في الطغيان عليها من الخارج حتى فكر أنه قد يأتي يوم ويقول لأبناءه، كان هنا بحيرة أقوم بالصيد فيها!
كانت تلك البقعة من البحيرة قد نبت فيها نبات الحامول الذي يجذب بعض أنواع الأسماك للعيش فيه، فبدأ يفرد غزله في الماء بشكل دائري وهو في منتصفه، وبعد أن إنتهى بدأ يضرب الماء بمدراته وهو وسط حلقة الغزل محاولا إثارة الأسماك كي تبدأ بالهرب فلا تجد إلا شباكه فتعلق بها!
فعل ذلك وانتظر قليلا، ثم بدأ يرفع الغزل من الماء، وكله أمل أن الله سيرزقه بصيد وفير، بدأ في لَمّ الغزل وهو ينظر لما علق به من أسماك، لم يحزن عندما لم يجد إلا سمكات قليلة رمى الشِر7 منها في الماء مرة أخرى، فقد كان يعلم أنه لن يحصل على صيد وفير من شَلـْبَة8 واحدة، فهو قد يقوم بهذا عشرات المرات، فالصبر كما قال له أبوه كثيرا هو مفتاح فرج الله، فلابد أن يصبر وأن يواصل، ولكن لابد له أن يوقن أيضا أنه لن يأخذ أقل أو أكثر من ما كتبه الله له من رزق. وبالفعل بدأ في رمي غزله مرة أخرى، وأخرى، وفي كل مرة كان يأتي له بالقليل. يسترجع حواديت أمه التي كانت تخبره فيها أن أباها كان يصطاد بالحبل، وهو نوع معين من الحبال يتم جدلها من خوص سعف النخيل، ويقف إثنان في الماء وقد أمسك كلا منهما بطرف من الحبل ثم يبدأون في سحب الحبل إلى الشاطئ، حتى إذا وصلوه وجدوا عشرات الكيلوجرامات من الأسماك قد علقت به أو خرجت إلى الشط أمامه، فما بالك بمن كان يستخدم الشباك؟!
أما اليوم فالبحيرة قد أصبحت خراب وأصيبت بالعقم.
بعد أن غير مكان صيده وقام ببعض الشلبات، شعر بالجوع، فأخرج الأكل وبدأ يتناول طعامه، كان عبارة عن خبز طري كانت أمه قد صنعته في البيت، وقطع من البطاطس المقلية كانت أمه قد أعدتها له في الصباح، وقطعة من الجبن. إبتسم، وربما ضحك عندما تذكر ذلك اليوم الذي قضاه مع والده منذ سنوات،عندما خرج معه هو ومجموعة صيادين على مركب أضعاف أضعاف حجم فلوكته هذه،عندما قاموا بطبخ جعليصة9، لم يكن يعلم عادات الصيادين ولم يكن يعرف بعد غرائبهم، وما رأه يومها رغم أنه كاد أن يصيبه بالجنون إلا أنه ضحك منه جدا، فبعد أن أعلن الطباخ أن الطبخة قد طابت ونضجت، إجتمع الصيادون من حوله، فأنزل الحلة10 من على النار، وتوقع هو أن يقوم الطباخ بغرف الطبخة في طبق كبير ليبرد قليلا ويوزع على كلا منهم ملعقة ليأكل بها، فالطبخة كانت ملتهبة فقد نزلت من على النار من ثوان فقط، ولكن ماحدث هو أنه ما إن رفع غطاء الحلة إلا وقد إمتدت كل الأيادي تكبش منها وتلقي بحمولتها من الجعليصة في ألأفواه مباشرة، وكأنهم هم وأفواههم وحلوقهم قد إعتادوا على أكل وإبتلاع النيران، أما من هو فيهم خِرع11 فقد كان يكبش الكبشة بيده ثم يمررها في ماء البحيرة لتبرد قليلا ثم يلقيها في فمه مباشرة!
يومها لم يأكل أي شئ فكيف له أن يأكل في وسط هذه الحرب، وعندما قال له أبوه: كٌل!
قال له :
أنا شبعت من الفـُرجة عليكم!
..
وجد أن الوقت داهمه ولابد أن يخرج ليعطي ما صاده من سمك لأمه لتبيعه قبل الظهر، خاصة أنه قد لاحظ أن بعض الصيادين من حوله قد بدأو يخرجون، ولابد أن أمه في إنتظاره على الشاطئ الأن. نظر في غلقه ليقدر ما أصطاده، ليس بالكثير ولكن لابد أن يخرج الأن فقد أزف الوقت وهذا هو رزقه، فبدأ برفع اخر شلباته والتي لم تأت له بالكثير ولكنه أسعده، ثم أدار فلوكته وفكر أن يرفع شراعه الصغير ليُريح ذراعيه من التجديف قليلا، فالريح رغم أنها تكاد لا تتخطى النسمات ولكنها قد تقود فلوكته الصغيره على صفحة المياة الناعمة حتى توصله الشط، فنصب قطعة من الخشب كساري في موضع معد لها، وعلق بها شراعه الصغير وربط طرفه الأخر في موضع على سطح الفلوكة، وبدأ الشراع يمتلأ بالهواء الجنوبي الغربي الناعم، فبدأ يشعر بنشوة غريبة، وبدأ قلبه يمرح داخل صدره، وبدأ صدره يتنفس النسمات كما لم يتنفسها من قبل، فبدأت الفلوكة تنساب برشاقة على سطح الماء متجة إلى الشاطئ.
ربما هو يحلم ليل نهار بالذهاب إلى البحر، وأمه تعارضه، ربما تخشى عليه مصير أبيه، على الدوام يغضبه هذا، ولكن في تلك اللحظات الساحرة والتي يعيش إحداها الأن، يوافق أمه تمام الموافقة في عدم الذهاب للبحر، فللبحيرة سحر آخر.
====================================
1- الوعاء.
2- طاقية.
3- إنطلق.
4- المجداف.
5- لا تزمجر ولا تغضب،كما أتيت بك إلى هنا سأعيدك إلى الشاطئ مرة أخرى!
6- شباكه.
7- السمك الصغير.
8- عندما تضع الشبكة في الماء وتخرجها تُسمى هذه شَلْبَة.
9- هي طبخة عبارة عن أرز وشرائح بصل وصلصة طماطم طازجة،يتم سلق البصل قليلا في الصلصة مع إضافة بعض البهارات،ثم بعدها إضافة الأرز وتقليبه جيدا مع البصل والصلصة وتركه على النار ينضج.
10- قدر الطبخ.
11- ضعيف.
قالتها السيدة لبائعة السمك التي كانت تحمل على ذراعها اليمنى وعاء بلاستيكي به بعض السمك الذي تبيعه.
سمعت بائعة السمك السعر الذي عرضته عليها السيدة ونظرت إلى السمكات في الوعاء وقد بدى عليها الأسى من ذلك الثمن البخس المعروض عليها،والذي لا يساوي أبدا مقدار تعب رَجُلها الصغير من الفجر حتى الظهيرة، فأعادت فرد قطعة القماش البالية المبللة بالماء-أو التي كانت-على السمكات كي تحميها من حرارة الشمس،وهنا فهمت السيدة أن السعر الذي عرضته لم يُعجب البائعة،فهَمَّت بالكلام وتوقعت البائعة أن ترفع السيدة السعر قليلا،و لكن ماحدث أن السيدة قد قالت :
إنتي حُرة،السمك كتير وأنا هانزل أجيب من على البحيرة!
فما كان من البائعة إلا أن خفضت رأسها في حزن ثم رفعته وقد أذعنت،وسألت السيدة : معاكي كيس ؟
- فأجابت السيدة بلهجة إنتصار :
لا، الدار أهِه ،هاتي وأنا أفضي السمك وأجيبلك المعجن1
...
- سيبيني أروح البحر!
كانت هذه أخر جملة نطقها في حُلمه بعد أن إنتبه على صوت أمه توقظه.
كان الفجر قد بزغ وبقي القليل من الوقت على أشعة النهار كي تنسكب على صفحة الكون، وهو في طريقه وحده إلى البحيرة، كان يحمل غلق به طعامه وبعض عدة صيده التي كان قد جلبها معه بالأمس إلى البيت لإصلاحها، أمه أيقظته متأخر قليلا هذا الصباح، لقد إعتاد أن يستيقظ وحده في ميعاده، و لكن البرد خارج المنزل قد جعل دفء الفراش يُسكره و يُذهب وعيه ويُنسيه ميعاد إستيقاظه، إلى أن أيقظته أمه، هو إبنها وراجلها بعد أن توفى أبوه في ليبيا إثر غرق المركب التي كان يعمل عليها، فما كان منه وهو الصغير الذي قد تخطى العاشرة بقليل إلا أن يتولى مسئولية المنزل ويذهب للصيد في البحيرة على الفلوكة التي تركها له أبوه، وما يخرج من صيده يعيش به هو ووالدته وأخوه الصغير.
كان الجو بارد، خاصة في تلك الساعة من الفجر، و الهواء رغم أنه يكاد يكون ساكن إلا أنه من وقت لأخر كان يهب صافعا وجهه بموجة باردة يتصلب من أثرها خداه، فهما تقريبا الجزء الوحيد الظاهر من وجهه فقد إرتدى فوق رأسه كَلَبوش2 صوف كانت أمه قد إشترته له من سوق الأربعاء، ولف حول رقبته وبقية وجهه كوفية أبيه الراحل، ولكن كان هناك أيضا جزء منه قد تصلب تماما تقريبا، إنهما قدماه وأصابعهما التي قاربت على التجمد من شدة البرد، فقد كان ينتعل حذاء بلاستيكي رخيص يظنه يجتذب البروده ثم يحقنها في قدميه!
تخطى الطريق الإسفلتي الفاصل بين البحيرة والبيوت، ثم نزل سور البوتن الخرساني الذي كان قد بُني ليحجز ماء البحيرة، ثم بدأ يقطع تلك الساحة الشاسعة التي تم تجفيفها بطول ساحل البحيرة، طغيانا وذبحا وتعذيبا لها، قالت له والدته أن ماء البحيرة في الشتاء كان يصل لمنزل الشيخ مصطفى، والذي يبعد عن منزلهم بما يقارب المائة متر، وهو ما تعجب له كثيرا خاصة وهو يرى البحيرة قد تم التهامها بهذا الشكل حتى أنه قد يأتي يوم وتنتهي وتمحى من الوجود، وفكر أنه ساعتها سيذهب حتما الى البحر ولن تستطيع وقتها أمه أن تعارضه، فلم يعد هناك بحيرة!
وصل شاطئ البحيرة أخيرا، كان أول ما أعتاد أن يفعله أول ما يصل إلى فلوكته هو أن يفحص مخبأها جيدا، فربما به شئ ما!
كان لا يخشى العفاريت ولا يتوقع أن يجد عفريت، و لكنه إعتاد أن يفعل ذلك وهو يضحك بعد أن سمع من أمه قصة قريبه الذي بعد أن كسع3 بفلوكته حتى تَوَّسط البحيرة، فإذا به يرى كلب ضخم يخرج له من مخبأ الفلوكة، ويبدو أنه كان قد قضى ليلته في دفء المخبأ ولم يخرج إلا بعد طلوع الشمس، وكان صاحبنا قد وصل إلى وسط البحيرة، كان قريبه هذا يخشى الكلاب جدا، وعندما رأى الكلب تمَلـَّكه الفزع وحاول أن يضرب الكلب بالمِدْرَة4 ليوقعه في ماء البحيرة ويتخلص منه, ولكن ماحدث هو أنه عندما هَمَّ برفع المِدْرَة حتى توقع الكلب ما سيحدث، فإذا به يزمجر بشدة،وكأنه قد لاحظ خوفه منه فأعاد الزمجرة ونبح بجنون وعنف!
فإذا بقريبه هذا يرفع يده للكلب ويقول بإستسلام :
لا تزوم ولا تلوم زي ماجبتك أوديك!5
ورجع به إلى الشاطئ!
..
إنطلق بفلوكته بعد أن تأكد من خلوها من أي كلاب وبعد أن جهزها وتأكد من تمام عدة صيده، ثم بدأ بالتوجه نحو مناطق معينة ليرمي فيه غزله6، كان نور الشمس قد بدأ يضفي حمرة على الأفق الشرقي للسماء معلنا عن إقتراب ميعاد الشروق، أما الأفق الغربي فقد كان ملبد ببعض الغيوم القليلة، فالجو رغم برودته لا ينبئ بسقوط أمطار، وسيكون حار في الظهيرة، كان قد إكتسب خبرة الصيادين في التنبؤ بحالة الجو، فبمجرد النظر في الأفق يستطيع أحدهم أن يعرف كيف سيكون الجو اليوم، بارد أم حار،أهناك امطار أم لا، هل سيكون هناك عواصف أم مجرد رياح خفيفة.
بدأت خيوط النهار تنسلخ من ستارة الليل الحالكة لتضفي على الدنيا حلة من نور وضياء، كان يشعر بالبرد ولكن المجهود الذي يبذله في التجديف قد أجرى الدماء دفاقة دافئة في عروقه ونضح دفئها على جسده فشعر بالدفء، وها هي الشمس قادمة ببهاءها ونورها وضياها لتدفئ وتنير أوصال الكون من حوله، كان يرى كثيرين من حوله كُلا في طريقه إلى مكان صيده، كان يلقى على بعضهم السلام وتحية الصباح وكان بعضهم يلقي عليه التحية، كان هذا هو المجتمع الأخر بعاداته ومصطلحاته وتحياته والذي لا يحياه إلا هم، مجتمع الماء وما يختلف به عن مجتمع الشاطئ، فهنا كل شئ مختلف وله طريقة ومذاق ومتعة أخرى، وإن كان هو رغم قبوله بهذا العمل والصيد في البحيرة، إلا أنه لم يتخلص من ذلك الحلم الذي يطارده، حلم الصيد في البحر.
وصل إلى مكان صيده وقد إرتفعت الشمس قليلا فوق خط الأفق وبدأت تنشر أشعتها على صفحة الماء الفضية لتزيدها سحرا وجمالا، كان يصطاد في مكان قريب من جزء قد نبت فيه البوص بشكل هائل، ذلك البوص الذي قد بدأ يطغى على البحيرة من الداخل ويقابله الناس في الطغيان عليها من الخارج حتى فكر أنه قد يأتي يوم ويقول لأبناءه، كان هنا بحيرة أقوم بالصيد فيها!
كانت تلك البقعة من البحيرة قد نبت فيها نبات الحامول الذي يجذب بعض أنواع الأسماك للعيش فيه، فبدأ يفرد غزله في الماء بشكل دائري وهو في منتصفه، وبعد أن إنتهى بدأ يضرب الماء بمدراته وهو وسط حلقة الغزل محاولا إثارة الأسماك كي تبدأ بالهرب فلا تجد إلا شباكه فتعلق بها!
فعل ذلك وانتظر قليلا، ثم بدأ يرفع الغزل من الماء، وكله أمل أن الله سيرزقه بصيد وفير، بدأ في لَمّ الغزل وهو ينظر لما علق به من أسماك، لم يحزن عندما لم يجد إلا سمكات قليلة رمى الشِر7 منها في الماء مرة أخرى، فقد كان يعلم أنه لن يحصل على صيد وفير من شَلـْبَة8 واحدة، فهو قد يقوم بهذا عشرات المرات، فالصبر كما قال له أبوه كثيرا هو مفتاح فرج الله، فلابد أن يصبر وأن يواصل، ولكن لابد له أن يوقن أيضا أنه لن يأخذ أقل أو أكثر من ما كتبه الله له من رزق. وبالفعل بدأ في رمي غزله مرة أخرى، وأخرى، وفي كل مرة كان يأتي له بالقليل. يسترجع حواديت أمه التي كانت تخبره فيها أن أباها كان يصطاد بالحبل، وهو نوع معين من الحبال يتم جدلها من خوص سعف النخيل، ويقف إثنان في الماء وقد أمسك كلا منهما بطرف من الحبل ثم يبدأون في سحب الحبل إلى الشاطئ، حتى إذا وصلوه وجدوا عشرات الكيلوجرامات من الأسماك قد علقت به أو خرجت إلى الشط أمامه، فما بالك بمن كان يستخدم الشباك؟!
أما اليوم فالبحيرة قد أصبحت خراب وأصيبت بالعقم.
بعد أن غير مكان صيده وقام ببعض الشلبات، شعر بالجوع، فأخرج الأكل وبدأ يتناول طعامه، كان عبارة عن خبز طري كانت أمه قد صنعته في البيت، وقطع من البطاطس المقلية كانت أمه قد أعدتها له في الصباح، وقطعة من الجبن. إبتسم، وربما ضحك عندما تذكر ذلك اليوم الذي قضاه مع والده منذ سنوات،عندما خرج معه هو ومجموعة صيادين على مركب أضعاف أضعاف حجم فلوكته هذه،عندما قاموا بطبخ جعليصة9، لم يكن يعلم عادات الصيادين ولم يكن يعرف بعد غرائبهم، وما رأه يومها رغم أنه كاد أن يصيبه بالجنون إلا أنه ضحك منه جدا، فبعد أن أعلن الطباخ أن الطبخة قد طابت ونضجت، إجتمع الصيادون من حوله، فأنزل الحلة10 من على النار، وتوقع هو أن يقوم الطباخ بغرف الطبخة في طبق كبير ليبرد قليلا ويوزع على كلا منهم ملعقة ليأكل بها، فالطبخة كانت ملتهبة فقد نزلت من على النار من ثوان فقط، ولكن ماحدث هو أنه ما إن رفع غطاء الحلة إلا وقد إمتدت كل الأيادي تكبش منها وتلقي بحمولتها من الجعليصة في ألأفواه مباشرة، وكأنهم هم وأفواههم وحلوقهم قد إعتادوا على أكل وإبتلاع النيران، أما من هو فيهم خِرع11 فقد كان يكبش الكبشة بيده ثم يمررها في ماء البحيرة لتبرد قليلا ثم يلقيها في فمه مباشرة!
يومها لم يأكل أي شئ فكيف له أن يأكل في وسط هذه الحرب، وعندما قال له أبوه: كٌل!
قال له :
أنا شبعت من الفـُرجة عليكم!
..
وجد أن الوقت داهمه ولابد أن يخرج ليعطي ما صاده من سمك لأمه لتبيعه قبل الظهر، خاصة أنه قد لاحظ أن بعض الصيادين من حوله قد بدأو يخرجون، ولابد أن أمه في إنتظاره على الشاطئ الأن. نظر في غلقه ليقدر ما أصطاده، ليس بالكثير ولكن لابد أن يخرج الأن فقد أزف الوقت وهذا هو رزقه، فبدأ برفع اخر شلباته والتي لم تأت له بالكثير ولكنه أسعده، ثم أدار فلوكته وفكر أن يرفع شراعه الصغير ليُريح ذراعيه من التجديف قليلا، فالريح رغم أنها تكاد لا تتخطى النسمات ولكنها قد تقود فلوكته الصغيره على صفحة المياة الناعمة حتى توصله الشط، فنصب قطعة من الخشب كساري في موضع معد لها، وعلق بها شراعه الصغير وربط طرفه الأخر في موضع على سطح الفلوكة، وبدأ الشراع يمتلأ بالهواء الجنوبي الغربي الناعم، فبدأ يشعر بنشوة غريبة، وبدأ قلبه يمرح داخل صدره، وبدأ صدره يتنفس النسمات كما لم يتنفسها من قبل، فبدأت الفلوكة تنساب برشاقة على سطح الماء متجة إلى الشاطئ.
ربما هو يحلم ليل نهار بالذهاب إلى البحر، وأمه تعارضه، ربما تخشى عليه مصير أبيه، على الدوام يغضبه هذا، ولكن في تلك اللحظات الساحرة والتي يعيش إحداها الأن، يوافق أمه تمام الموافقة في عدم الذهاب للبحر، فللبحيرة سحر آخر.
====================================
1- الوعاء.
2- طاقية.
3- إنطلق.
4- المجداف.
5- لا تزمجر ولا تغضب،كما أتيت بك إلى هنا سأعيدك إلى الشاطئ مرة أخرى!
6- شباكه.
7- السمك الصغير.
8- عندما تضع الشبكة في الماء وتخرجها تُسمى هذه شَلْبَة.
9- هي طبخة عبارة عن أرز وشرائح بصل وصلصة طماطم طازجة،يتم سلق البصل قليلا في الصلصة مع إضافة بعض البهارات،ثم بعدها إضافة الأرز وتقليبه جيدا مع البصل والصلصة وتركه على النار ينضج.
10- قدر الطبخ.
11- ضعيف.
جميلة جدا
ردحذفتحياتى :)
أشكرك صديقي
حذفكل التحية.
ردحذفجميلة جدا
ماشاء الله على خيالك ياأحمد
كل قصة بتكون فكرة مختلفة وبأسلوب رائع ومختلف ومميز
دمت مبدع
أشكرك يا مروة، كل هذا لا يقارن بتميزك وروعة كتاباتك أنت،دوما يسعدني وجودك.
حذفكل التحية.
جميله اوي
ردحذفبس ليه مفسر الكلام هو سهل مش للدرجه دي
ههههههههه
تسلم ايدك
تحياتي
يعني ممكن البعض ما يعرفش معنى بعض الكلمات ففضلت إني أكتب معناها خاصة ان في بعض الكلمات محلية جدا وقد لا تستخدم خارج نطاق المكان هنا.
حذفدايما منورة المدونة يا وصف.
كل التحية
واقعة تعطي تلخيص يوم كامل للعمل و الرزق والأفكار
ردحذفو الرضى والذكريات و جميع ما يجول في الخواطر
ثم نهاية سعيدة نابعة عن رضى و حرية روح .. و ليس مال
تحيتي
أشكرك زينة على تحليلك للقصة في سطور قليلة، دوما اسعد وأتشرف بوجودك.
حذفكل الشكر والتحية.
كلنا نحلم بأن نصبح أغنياء .. لكن أحيانا ، أتمنى أن أبقى كما أنا و أن يكبر أولادي و نحن في نفس المستوى ..
ردحذفلأن عيشة الفقراء لا تقدر بثمن ..
لا شك أنها مليئة بالقهر و التعب ..
لكن الرضى إذا وجد بقلوبهم .. و القناعة .. فهما كنز حقا لا يفنى !
مهما عذبتهم الظروف و لعبت بهم الدنيا .. يبقون يبتسمون و يصنعون من القليل منها كثير من السعادة ..
عكس الأغنياء ، رغم أموالهم الطائلة .. متأكدة أنهم لن يشعروا ببعض الأشياء التي نشعر بها ..
أكيد أننا نحرم من أشياء .. لكن الله يعوضنا بأشياء أغلى ..
حقا الرضى بقدر الله الرزق مهما كان قليلا .. شيء كبير !
هذا الصغير .. منه الكثيرين في أوطاننا .. قد يكونون البؤساء في أعين الناس .. لكن من الذي يشفِق من هو أولى بالإشفاق عليه .
كالعادة أسلوبك في القصة شيء آخر .. أسلوب محترفين ..
و قصة بعد أخرى تبهرني و تجعلني أنتظر الجديد بشغف ..
تواجدي قليل بسبب الدراسة .. لكني متابِعة و لو بعد حين !
سلامي
بداية أنا أعرف ظروفك ومشاغلك وأقدر ذلك تماما، كما أقدر تواجدك هنا سواء قل أو كثر،ففي كل الأحوال له طعم خاص.
حذفربما انا مثلك، فعندما أتأمل قوله تعالي( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) أعلم مقدار الفقير الراضي بما قسمه الله له، فيجعله الله في نظر الناس أغنى الأغنياء، فرضاه يمنحه عزة وكرامة تميزه وسط الناس.
..
أشكرك إيمان على تعليقك الجميل، وعلى تواجدك الذي أسعدني وشرفني.
كل الشكر والتحية.