الأحد، سبتمبر 01، 2013

مجاذيب بلدنا. مهدي، أو الذي كان صحفي.

طبقا لما ورد في دفتر يومياتي كانت أول مرة أرى فيها مهدي، الأربعاء 9 أكتوبر 2002 الموافق 3 شعبان 1423.
ربما لم أذكر عنه تقريبا أي شئ في دفتر يومياتي في هذا اليوم فقد كان كل ما ذكرته يدور حول نشاطنا الذي كنا نقوم به في ذلك اليوم، وكذلك عن بنت جميلة قابلتها في ذلك اليوم أيضا!
ولكني اتذكر أني بعدها قد كتبت عنه ما يشبه قصة قصيرة، ولكني لا أتذكر أين هي هذه القصة وسط أكوام كراريسي القديمة.
كنا في ذلك اليوم في زيارة لقرية تسمى مسطروة تابعة لمنطقة تسمى بر بحري تقع في الغرب من برج البرلس بمحاذاة البحر حتى تصل إلى مدينة رشيد، كنا في إطار نشاطات لمشروع أو حملة تسمى (تحسين التعليم) فازت بإقامة نشاطاتها الجمعية الخيرية في قريتنا(جمعية الربع الخيرية) وقد كانت هذه الحملة مدعومة من الإتحاد الإوربي. وكان هدفها تحسين التعليم عن طريق إقامة مؤتمرات شعبية بحضور أساتذة جامعات ومسؤولين من وزارة التربية والتعليم لتوعية الناس بضرورة التعليم وإقناع من جعل إبنه او بنته يغادر المدرسة بالعودة، مع وجود دعم مادي يتمثل في مبلغ مالي وملابس جديدة.
كنا مجموعة شباب نخرج مع سكرتير الجمعية كل يوم إلى عزبة جديدة ونقوم بتجهيز مكان للمؤتمر في أكبر مدارسها وكذلك لصق منشورات في الشوارع ودعوة الناس للحضور في الشارع وكذا من خلال المساجد وتعريفهم بأسباب المؤتمر والعائد منه.
المهم!
في ذلك اليوم دخلنا إحدي-إن صح ذلك!- الكافيتريات لنستريح بعد جولات طويلة من اللف في الشوارع ولنأكل ولنشرب شئ ولننتظر حتى تنتهي الفترة المسائية في المدرسة كي نقوم بإعداد مكان المؤتمر.
جلسنا نتحدث ونشرب ونأكل وإذا بكلمات فرنسية تخرج في موسيقى جميلة من إتجاه ما وقت خرقت وصدمت أذاننا في أن واحد. إلتفتنا لمصدر الصوت، فإذا في أحد الأركان قد جلس على كنبه شخص ذو هيئة غريبة، يبدو أنه قد تحطى الثلاثين بكثير كان يرتدي قميص مقلم يبدو متسخ وغير مهندم وبنطلون غامق وقد شمر ساقيه إلى مايقارب منتصف قصبة رجله ليظهر جوربه المخرم وحذاءه المهترئ، كان قد جلس واضعا رجل على رجل وبين يديه كراسة وممسكا بقلم، كان يلبس نظارة تتضاد مع تضاريس وجهه التي تبدو كالمجدورة وشعيرات ذقنه الطويلة المتناثرة وكذا شعره الطويل الذي يبدو وكأنه قد تم تصفيفه ولكن عبثت به الأجواء.
إلتفتنا جميعا نحوه في إستغراب، وقد لاحظ صاحب الكافيتريا ذلك فقال له:
بالراحة يا مهدي عشان الأساتذة
وكنا أيضا قد لاحظنا مدى إنسيابية يده الممسكة بالقلم على ورق الكراسة وهي تخط شيئا ما من الشمال إلى اليمين بينما فمه يردد ما يكتب بلغة فرنسية أنيقة.
كان هذا هو أول يوم أرى فيه مهدي.
..
عندما رجعت قررت أن أعرف قصة ذلك المجذوب، وقد كان حظي حسن جداً أنني سألت خالي حسني. فقد كان يعرفه معرفة شخصية!
كان مهدي-ومن يعلم بر بحري قديما سيعرف مدى المعاناة التي عانها مهدي في رحلة تعليمه- ترتيبه الثاني على المحافظة في الثانوية العامة، وكان من ألأوائل على كليته التي درس فيها الصحافة حتى أنه عمل في الأهرام وكان يجيد الإنجليزية والفرنسية إجادة تامة، وما حدث أنه وبعد فترة من عمله بالإهرام-ولا أعلم صراحة أي قسم فيها- أراد ذات مرة مقابلة رئيس التحرير، ربما هو كان صحفي متميز ولكن ماهي مؤهلاته الإجتماعية؟! لا شئ!، فأعترضت سكرتيرة رئيس التحرير دخوله وربما أهانته-فهي صاحبة سلطة!- ولكنه -وبإندفاع القروي وبالطبيعة الخلقية لأهل منطقته- إندفع لمكتب رئيس التحرير وشكى له سوء معاملة السكرتيرة له، وبطيبة أهل القرى قال له:
يا أنا يا السكرتيرة
فقال له: السكرتيرة طبعاًـ هو انت إية؟!
..
يقول خالي هذا هو ما حكاه له مهدي عندما سافر للعراق بعدها-في نهاية الثمانينات، والجميع يعلم كيف كانت العراق مصرية في الثمانينيات!- بعد أن ترك العمل في الأهرام، ربما حدث شئ أخر وربما هناك سبب اخر، ولكن كل هذا لا يعلمه إلا الله.
تقابل خالي معه في العراق مثلما يتقابل أهل البلد في الغربة وأقاما سويا وصارا أصدقاء، ويقول خالي أنه في تلك الفترة كان مازال بكامل عقله وكان ربما تخطى ازمة الأهرام وتأثيرها النفسي عليه، ويقول خالي انه كان شديد الذكاء، ففي أحد الأيام ذهبا لإحدى الهيئات الحكومية بالعراق لإستخراج أوراق الإقامة ولكن كانت الأعداد هائلة، وقال له خالي أنه صار له ما يقارب الشهر ياتي يوميا ولا يستطيع دخول البوابة لأن الأمن يدخل عدد محدود يوميا، وقال له أن الأمن كلما إقتربت الأعداد محاولة الدخول جروا خلفهم بالسياط فيجري الجميع أمامهم!
يقول خالي أن مهدي سكت للحظات وقال له على طريقة ستجعله يدخل بسهولة، وقال له عندما يجري الحراس خلف الناس الراغبين في الدخول، بالتأكيد يجري الجميع أمام الحراس، فأشار عليه أن يجري هو بالإتجاة المعاكس، أي أن يجري ليقابل الحرس لا يجري أمامهم وحينها سيجد نفسه قد وصل للبوابة.
وبالفعل عندما كثرت الأعداد وأقتربت من البوابة إستعد الحرس للقيام بالنشاط المعهود، فجهزوا السياط وجروا بإتجاة الجماهير الغفيرة التي خافت بدورها وجرت أمام الحرس، بينما فعل خالي بالنصيحة وجرى في إتجاه الحرس الذين فوجئوا بذلك وتجاهلوه حتى وجد نفسه بأحضان البوابة الخالية من الحراس ففتح ودخل، ثم أشار لمهدي من الداخل بيده بينما على وجهه إبتسامة أقرب للضحكة الهيستيرية!
..
بعد أن رجع مهدي من العراق الذي كان السفر إليه بمثابة هروب مما حدث له في الأهرام، هجمت عليه حالة نفسية لم تتركه إلا وهو مجذوب يطوف شوارع البلاد، بطوله الفاره الذي بدأ ينحني لإنحناء ظهره من كثرة نظره للأرض وهو يمشي، بقميصه المقلم وبنطاله الغامق الذي طويت ساقاه لمنتصف قصبة رجله مظهرة جوربه المقطع وحذائه المهترئ، بينما بين كل خطوة وأخرى، وبملامح تحمل إبتسامة ساخرة أحيانا أو حزن مجهول الهوية أحيانا أخرى، ينظر مرة يمينا ومرة يسارا ويعدل من وضوع النظارة الطبية على أنفه.
مازال العبقري مهدي على قيد الحياة، كنت أراه في السنوات الماضية كثيرا، فهو كان دائم التجوال، حتى أنه في مرة وكنا جلوس في الشارع مر علينا وكان معنا خالي فناداه وسلم عليه خالي وسلم هو عليه وناداه بإسمه وتحدث كأي إنسان عاقل رزين.
لم أره منذ سنوات، ربما لأنني أصبحت اغيب كثيرا عن البلد ولا أقضي وقت طويل في الشارع مثل الماضي، وربما لأن مهدي قد سئم التجوال مثلما سئم البشر ونفاقهم وفسادهم.
..
على الهامش.
-قررت أن يكون الحكي اليوم عن المجاذيب هروبا من دنيا الحمقى!
-هذه السلسلة تتناول أشخاص حقيقين من بلدنا، ولا تحمل إي إسقاط على الواقع. وأسلوبي فيها أسلوب بسيط قد لا يحمل ترابط القصة ولا فكرية المقال، ولكن أعتقده يوصل الفكرة بطريقة بسيطة. وقد آثرت ذكر أسمائهم الأولى فقط، كما أن بلدنا المستخدمة هنا لا تعني مصر أو الدولة، بل هي بمعناها الذي إعتدناه صغارا والذي يشير إلى منطقتنا!
-أستاذتنا شمس النهار، عبارتك في تعليقك على التدوينة الأولى ( في إعتقادي أن أغلب المجاذيب وضع عقلهم يده على الحقيقة فأُذهب عن الواقع) هي عبارة عبقرية وأظنها تحمل تفسير عميق وحقيقي.
..

هناك تعليقان (2):

  1. والله جميلة فالكل أصبح مجذوب لنظام معين

    ردحذف
  2. مجذوبك اليوم اكتر واحد مرتاح علي وجه الارض يااحمد
    واشكر لك ذوقك ربنا يكرمك

    ردحذف

فضفض و قول اللي في ضميرك
مشتاق صديقك لأي قول