تنوعت فنون اللغة العربية ما بين شعر ونثر ولغة(نحو وصرف)، وربما كان الغرض الأساسي من غالبيتها هو المتعة الأدبية(مثل الشعر) ولكن كان بعضها(مثل المعاجم وكتب النحو والصرف) غرضه الأساسي حفظ اللغة ومفرداتها من الإندثار.
ربما أكثر الفنون التي صمدت منذ ميلاد العربية وحتى اليوم، فن الشعر. إذ يعد قرض الشعر من الفنون التي نجت مما أصاب العديد والعديد من الفنون اللغوية الأخرى في العربية، وربما أيضا كان له النصيب الأعظم من الإهتمام والإحترام، حتى أننا نجد أن بعض كتب النحو قد صاغها مؤلفوها في نسق شعري، مثل ألفية إبن مالك وغيرها. ربما الوضع إختلف اليوم قليلا بعد ظهور فنون جديدة، مثل فن القصة وفن الرواية وفن المسرحية، وغيرها من فنون الكتابة.
ومن الفنون التي إندثرت تقريبا من قائمة الفنون النثرية في العربية، فن المقامة. والتي عنيت بجمع مفردات اللغة وغرائبها وحفظها عن طريق صياغتها في نصوص مسلية للقارئ. وقد أختلف علماء اللغة في أصلها وهل تعد عملاً قصصياً أم عملاً لغوياً؟ إذ أن الإعتقاد كان أن مبتكر فن المقامة هو بديع الزمان الهمذاني(353-393هـ) والذي احتذى حذوه الحريري(446-515هـ). وبالتأكيد هما أشهر من نعرفهما في فن المقامة، بل في الواقع لم يوجد غيرهما من كتب في هذا الفن.
ولكن البحث الحديث رجَّح أن بديع الزمان نقل فكرة المقامة عن إبن دريد اللغوي(223-331هـ). وهذا هو ما أثار سؤال: هل المقامة فن قصصي أم فن لغوي؟!
ربما الأستاذ زكي مبارك في كتابه النثر الأدبي رجح أن المقامات عملاً لغوياً لا قصصياً. ولكن البعض لاحقاً فضلوا أن يصنفوه كنوع من الأدب اللغوي أو اللغة الأدبية. أي ذلك النوع الذي يتناول اللغة بأسلوب فني قصصي لا بأسلوب علمي تعليمي مباشر.
ولكني في الحقيقة لست في معرض الحديث عن فن المقامة، إذ أنه يُعد فن معروف للجميع. إذ أنني أظن أن لا أحد في عالمنا إرتاد مدرسة ولم يدرس نص أو أكثر من نصوص مقامات الحريري أو الهمذاني. إذ أنني سأعرض بشكل مختصر وبسيط لفن ربما لا يعرفه إلا من تخصصوا في دراسة اللغة العربية وتعمقوا فيها. وهو فن أطلق عليه أكثر من إسم. إذ دعوه "المُداخل" أو "المُتَداخل" أو "المُسَلسل".
وهو فن قصد إلى تناول المشترك اللفظي، وإلى تدريس وتوريث اللغة ومفرداتها بطريقة لا تسبب مللاً أو سأماً، وهو فن عني بنظم المفردات في تسلسل بديع ينقل القارئ من لفظة إلى أخرى على خيط دقيق من المعنى المشترك يجمع بينها. وذلك بأن تُذكر اللفظة ثم تفسر بلفظة ثانية، وتفسر الثانية بثالثة، والثالثة برابعة، وهكذا حتى ينتهي الفصل، ثم يستأنف الكلام بنفس اللفظة بتفسير جديد أو بكلمة جديدة على نفس النسق. وهكذا حتى تجتمع عدة فصول، قد تطول أو تقصر تبعاً للمادة ومعانيها وتبعاً لقدرة المؤلف على حشد وتجميع المترادفات والمعاني. وكذا فإن المؤلف يلجأ إلى الإستشهاد بالشعر كنوع من التأكيد على دقة المعنى، وكنوع من الترفيه.
وقد عرف تاريخنا ثلاثة من أئمة هذا الفن. وقد كان أول من ألـَّف فيه، إستناداً على ما عثر عليه من مؤلفات وما ورد في الكتب الأخرى من إشارات، هو أبو عمر المطرز البغدادي ( محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم الباوردي261-345هـ. وسمي المطرز لأنه كان يشتغل بتطريز الثياب) صاحب كتاب "المُدَاخل" وكتابه أبواب قصار رواها عن ثعلب (أبو العباس أحمد بن يحي بن زيد الشيباني 200-291هـ) أستاذه، حتى أنه قد لقب بغلام ثعلب، إذ أنه قد صحبه لفترة طويلة.
والمفردات التي تناولها كتاب المُدَاخل كانت تميل إلى البداوة وتتعمق في الغرابة. في حين أننا نجد أن ثاني كتبنا في هذا الفن كانت مفرداته وشواهده الشعرية تجمع مابين الغريب والمستعمل، وهو كتاب "المُسَلسل" لمحمد بن يوسف بن عبدالله التميمي المازني السرقسطي الأندلسي، المتوفى بقرطبة سنة 538 هـ.
وقد أراد في هذا الكتاب-كما ذكر في مقدمته- أن يستوفي ما أهمله المطرز البغدادي في "المُدَاخل" فنوع وأزاد في الألفاظ وفي الشواهد الشعرية.
بقي لنا ثالث هؤلاء الكتاب، وهو أبو الطيب اللغوي، عبد الواحد بن علي أبو الطيب العسكرين المتوفى بحلب سنة 351هـ. وكتابه هو "شجر الدر في تداخل الكلام بالمعاني المختلفة". وقد كان أبو الطيب اللغوي تلميذاً لأبي عمر المطرز البغدادي وعاصره وتوفي بعده بست سنوات. وقد كان من أمهر وأقدر اللغويين والنحوين وله تصانيف عظيمة، وقد ذكر أبو العلاء المعري كتابه هذا(شجر الدر) في رسالة الغفران.
وقد سلك في كتابه هذا مسلك أستاذه، ولكن مفرداته كانت أكثر استساغة وأسهل من مفردات "المُدَاخل"، وإن كانت شواهده الشعرية قد ضمت الكثير من الشعر القديم الغريب.
وهنا أضع نموذج من كتاب "شجر الدر" وهو الذي بين يدي من الثلاثة:
ربما أكثر الفنون التي صمدت منذ ميلاد العربية وحتى اليوم، فن الشعر. إذ يعد قرض الشعر من الفنون التي نجت مما أصاب العديد والعديد من الفنون اللغوية الأخرى في العربية، وربما أيضا كان له النصيب الأعظم من الإهتمام والإحترام، حتى أننا نجد أن بعض كتب النحو قد صاغها مؤلفوها في نسق شعري، مثل ألفية إبن مالك وغيرها. ربما الوضع إختلف اليوم قليلا بعد ظهور فنون جديدة، مثل فن القصة وفن الرواية وفن المسرحية، وغيرها من فنون الكتابة.
ومن الفنون التي إندثرت تقريبا من قائمة الفنون النثرية في العربية، فن المقامة. والتي عنيت بجمع مفردات اللغة وغرائبها وحفظها عن طريق صياغتها في نصوص مسلية للقارئ. وقد أختلف علماء اللغة في أصلها وهل تعد عملاً قصصياً أم عملاً لغوياً؟ إذ أن الإعتقاد كان أن مبتكر فن المقامة هو بديع الزمان الهمذاني(353-393هـ) والذي احتذى حذوه الحريري(446-515هـ). وبالتأكيد هما أشهر من نعرفهما في فن المقامة، بل في الواقع لم يوجد غيرهما من كتب في هذا الفن.
ولكن البحث الحديث رجَّح أن بديع الزمان نقل فكرة المقامة عن إبن دريد اللغوي(223-331هـ). وهذا هو ما أثار سؤال: هل المقامة فن قصصي أم فن لغوي؟!
ربما الأستاذ زكي مبارك في كتابه النثر الأدبي رجح أن المقامات عملاً لغوياً لا قصصياً. ولكن البعض لاحقاً فضلوا أن يصنفوه كنوع من الأدب اللغوي أو اللغة الأدبية. أي ذلك النوع الذي يتناول اللغة بأسلوب فني قصصي لا بأسلوب علمي تعليمي مباشر.
ولكني في الحقيقة لست في معرض الحديث عن فن المقامة، إذ أنه يُعد فن معروف للجميع. إذ أنني أظن أن لا أحد في عالمنا إرتاد مدرسة ولم يدرس نص أو أكثر من نصوص مقامات الحريري أو الهمذاني. إذ أنني سأعرض بشكل مختصر وبسيط لفن ربما لا يعرفه إلا من تخصصوا في دراسة اللغة العربية وتعمقوا فيها. وهو فن أطلق عليه أكثر من إسم. إذ دعوه "المُداخل" أو "المُتَداخل" أو "المُسَلسل".
وهو فن قصد إلى تناول المشترك اللفظي، وإلى تدريس وتوريث اللغة ومفرداتها بطريقة لا تسبب مللاً أو سأماً، وهو فن عني بنظم المفردات في تسلسل بديع ينقل القارئ من لفظة إلى أخرى على خيط دقيق من المعنى المشترك يجمع بينها. وذلك بأن تُذكر اللفظة ثم تفسر بلفظة ثانية، وتفسر الثانية بثالثة، والثالثة برابعة، وهكذا حتى ينتهي الفصل، ثم يستأنف الكلام بنفس اللفظة بتفسير جديد أو بكلمة جديدة على نفس النسق. وهكذا حتى تجتمع عدة فصول، قد تطول أو تقصر تبعاً للمادة ومعانيها وتبعاً لقدرة المؤلف على حشد وتجميع المترادفات والمعاني. وكذا فإن المؤلف يلجأ إلى الإستشهاد بالشعر كنوع من التأكيد على دقة المعنى، وكنوع من الترفيه.
وقد عرف تاريخنا ثلاثة من أئمة هذا الفن. وقد كان أول من ألـَّف فيه، إستناداً على ما عثر عليه من مؤلفات وما ورد في الكتب الأخرى من إشارات، هو أبو عمر المطرز البغدادي ( محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم الباوردي261-345هـ. وسمي المطرز لأنه كان يشتغل بتطريز الثياب) صاحب كتاب "المُدَاخل" وكتابه أبواب قصار رواها عن ثعلب (أبو العباس أحمد بن يحي بن زيد الشيباني 200-291هـ) أستاذه، حتى أنه قد لقب بغلام ثعلب، إذ أنه قد صحبه لفترة طويلة.
والمفردات التي تناولها كتاب المُدَاخل كانت تميل إلى البداوة وتتعمق في الغرابة. في حين أننا نجد أن ثاني كتبنا في هذا الفن كانت مفرداته وشواهده الشعرية تجمع مابين الغريب والمستعمل، وهو كتاب "المُسَلسل" لمحمد بن يوسف بن عبدالله التميمي المازني السرقسطي الأندلسي، المتوفى بقرطبة سنة 538 هـ.
وقد أراد في هذا الكتاب-كما ذكر في مقدمته- أن يستوفي ما أهمله المطرز البغدادي في "المُدَاخل" فنوع وأزاد في الألفاظ وفي الشواهد الشعرية.
بقي لنا ثالث هؤلاء الكتاب، وهو أبو الطيب اللغوي، عبد الواحد بن علي أبو الطيب العسكرين المتوفى بحلب سنة 351هـ. وكتابه هو "شجر الدر في تداخل الكلام بالمعاني المختلفة". وقد كان أبو الطيب اللغوي تلميذاً لأبي عمر المطرز البغدادي وعاصره وتوفي بعده بست سنوات. وقد كان من أمهر وأقدر اللغويين والنحوين وله تصانيف عظيمة، وقد ذكر أبو العلاء المعري كتابه هذا(شجر الدر) في رسالة الغفران.
وقد سلك في كتابه هذا مسلك أستاذه، ولكن مفرداته كانت أكثر استساغة وأسهل من مفردات "المُدَاخل"، وإن كانت شواهده الشعرية قد ضمت الكثير من الشعر القديم الغريب.
وهنا أضع نموذج من كتاب "شجر الدر" وهو الذي بين يدي من الثلاثة:
والصَحْن: إصلاح الشَّعْب، والشعب: الرَّفو، والرفو:السكون، والسكون: جمع سَكَن، وهو النار، والنار: الوَسْمُ، قال الشاعر:
أنَخـْن وهُن أغْفالٌ عليه فقد ترك الصَّلاءُ بهن نارا.
(شجر الدر.ص 81-82)
والصحن: الإحذاء، والإحذاء: أن تهب للرجل نعلاً، والنعل: العَتَب من الأرض، أي الغليظ، والعتب: ظلع البعير، والبعير ما يخرج من الإبل من البعر، قال جرير:
وهل كنت يابن القين مالكاً بَعيرَ بَعير ٍبَلـْهَ مَهْريةً نُجُبا
(شجر الدر. ص 84)
وكذلك:
والانكفاء: انكباب الإناء، والإنكباب: دنو الصدر من الأرض، والصدر: الرئيس، والرئيس: المصاب في رأسه بسهم، قال الشاعر:
ويَقـْتـُل نفسَه إن لم يَنـَلْها فحـُقَّ له رئيس أو بعيج
والسهم: القِسْط من الشئ، والقسط: العدل، والعدل: الميل، والميل: الحب، والحب: آنية من الجر، والجر: سفح الجبل، والسفح: الصب، والصب: الدنف، والدنف: العلة، والعلة: السبب. قال الشاعر:
أنخت بها الوجناء من غير علة لثنتين بين اثنين آت وذاهب!
(شجر الدر. ص 168-169)
.
نجهل من لغتنا الكثير من فنونها وقواعدها وأسرارها، وإن كان يصعب، أو يستحيل!، أن نتعمق في أغوارها، فإن أقله أن نعرف أبسط قواعدها وأن لا نكون خنجر في ظهرها أو مسمار في نعشها.
تحية طيبة
ردحذفأحسنت التدوين في هذا الشأن، فغالبا ما نجد نفورا ظاهرا من القارئ لمثل هذه الدرر التي تبيح الفائدة والمعنى، تبيح القدرة على استعاب اللغة، وتفتح المدارك واسعا أمام لغة العرب غريبها ومألوفها..
أعتقد أن فن المقامة هو فن جمع ما بين اللغة وبراعتها والمحسنات البديعية وبين القص، لأن المضمون داخل المقامة غالبا ما يكون حكيا أو قصصا، لهذا، فهذا الفن جمع الاثنين.
لكن هل لفن المقامة الان في عصرنا دور؟ أكيد أنه وإن كُتبت المقامة فلن تصل إلى مقام ما كتبه الحريري وقبله بديعه الزمان، ذلك لأن المقامة تحتاج حشدا للألفاظ، والمصطلحات والمعاني، والدقة في توظيفها، على نسق مسجوع، ثم أين هو هذا القارئ الذي سيقرأ المقامة، القراء صاروا إلى الخفيف من الألفاظ استئناسا، وإلى حب اللغة العصرية التي لا تكثر من السجع، حتى فن الخطابة المنبرية لم يعد يعتمد على المسجوع من الكلام إلا قليلا.
على كل حال أفادني الموضوع كثيرا، وأفادني ذكرك وتطرقك لهذا الفن، وإلى المسلسل..
وأعتقد أن السابقين عملوا وابتكروا مثل هذه الطرق للحفاظ على اللغة العربية.
محبتي أيها الطيب.
بداية، جعلك الله أستاذ رشيد ممن تحيتهم فيها سلام، وممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ردحذفوأشكرك على هذا التعليق الجميل والبناء.
أتفق معك أستاذ رشيد في كون فن المقامة صعب لما ذكرت من أسباب، ولكن ربما لو قدر البعض على التأليف في مثل هذا الفن لأستطاعوا إبقاء الألفاظ العربية، التي كسدت في أيامنا هذه، على عرشها. وربما تكون محاولة مثل محاولات الأقدمين للحفاظ على اللغة والإبقاء على مجدها.
..
كل الشكر والمحبة.