دوما ترتبط بالمكفوفين نوادر من الصعب جدا أن تحدث إلا معهم،و قد كان الشيخ فكري واحدا منهم ، فنوادره التي يتحاكى بها الجميع، تجد فيها إما موعظة تجعلك تقول سبحان الله، فهو لا يأخذ من العبد شئ إلا و يعطيه في مقابله أشياء وأشياء، و إما إنشراح، فصعب جدا أن تسمعها و لا تضحك من كل قلبك حتى تشعر بأن هناك في الحياة مازال يوجد شئ جميل !!
عشت معه بعض تلك النوادر بعد أن سمعت منها الكثير و الكثير، فالشيخ فكري ذلك الشخص الكفيف، كان في إستطاعته أن يقطع وحده الطريق من بيته إلى الطريق العمومي ليستقل سيارة الأجرة ليذهب إلى المعهد الديني في المدينة حيث يعمل أستاذا للغة العربية و بعض المواد الفقهية، فقد كان يقطع الشوارع بتعرجاتها و تعددها و تناثر بيوتها بكل سهولة و إحترافية حتى أنه كان يتفادى بعض النقاط المشهورة بوجود حفرة أو مستنقع ماء أو ماشابه بكل سهولة و هو ما قد لا ينتبه له العديد من المبصرون و ينالوا جزاءهم لقاء ذلك،سقطة توجعهم أو ماء قذر يغطي ملابسهم !!
كان يعلم أين يقف على الطريق و يشير إلى السيارة القادمة، لم يكن هذا هو العجيب، فالعجيب- بل العجيب جدا- هو أنه كان لا يشير إلا للسيارة التي لا يركب فيها أحد بجوار السائق ليركب هو بجانبه، و كل من تابعوه و راقبوه طوال سنوات عجزوا عن معرفة كيف يعرف السيارة التي يركب فيها أحد بجوار السائق من تلك التي لا يركب فيها أحد بجوار السائق !!
...
ذهبت و أنا صغير إلى كُتابه لأحفظ ما تيسر من القرآن، كنت أنا و رفاقي في بدايات التعليم الإبتدائي، نذهب إلى بيته صباحا و ننتظره خارج البيت حتى يستيقظ، و قد كان قد أنهى عمله في المعهد و تفرغ للقراءة في المأتم و تحفيظ القرآن، فيستيقظ و يخرج إلينا أمام البيت فيفرش- و أحيانا لا - بساط صغير يجلس عليه و نفترش نحن من حوله الرمل الناعم.
كان ما يذهلنا جميعنا هو كيف يعرف أن أحدنا يغش من المصحف و هو يُسمّع لنا ما هو مفروض أننا قد حفظناه !!
فقد كان يعلم ذلك جيدا و كأنه يرانا،و كان يقول لي :
يا واد يا أبوصالح إوعك تغش..شايفك !!
ربما كان أمتع يوم قضيناه عنده هو ذلك اليوم الذي جاء فيه أحد الأطفال المبتدئين الأصغر منا سنا،فبدأ يحفظه قِصار السور،و بدأ بسورة الإخلاص،و قال للولد :
قول ورايا،
قل هو الله أحد
- فيرد الولد وراءه:
هو الله أحد
- فيكرر الشيخ فكري :
قل هو الله أحد !
- فيقول الولد :
هو الله أحد !
و نحن طبعا نكتم ضحكاتنا من حوله، فقد كان موقف مضحك جدا،منظر الطفل البرئ و هو يردد بحماس : هو الله أحد !
و منظر الشيخ فكري الذي قد بدأ الضيق يهاجمه،و لكنه تماسك و قرب الولد إليه أكثر و قال له ثانية :
قول ورايا ، قل هو الله أحد
فأنتظر الولد للحظات أعطت الشيخ فكري بعض الأمل و لكن الولد بعدها نطق :
هو الله أحد !
و هنا تمالك الشيخ فكري أعصابه،و كانه قد خطرت له فكره، فيبدو أن الصغير يعتقد أن ( قل ) في أول الكلام أمر له ليقول و ليست جزء من الأيه و عليه فهو يتخطاها و يقول : هو الله أحد !
- فقال الشيخ فكري هذه المرة و عنده أمل كبير :
قل قل هو الله أحد !
- فنطق الولد :
قل هو الله أحد !
فهلل الشيخ فكري مسرورا و هللنا جميعنا وراءه !!
...
ذات يوم - وقد كنت وقتها مازلت صغير - رأيته يمر من على الطريق أمام بيتنا وحده، فجريت إليه و سلمت عليه وسألته :
رايح فين يا شيخنا ؟
فأجاب رايح أولاد سلامة، ثم استطرد ، ما تيجي توصلني يا أبوصالح !
فرددت :
دا أنا خدامك يا شيخنا !
فرد :
الله يبارك فيك،وشبكت ذراعي في ذراعه و انطلقنا، فسألني :
تعرف دار فلان الفلاني ؟
- فرددت :
لا و الله يا شيخنا
- فرد :
ولا يهمك أنا عارفها !!
و كنت وقتها قد تخطيت مراحل التعجب و الذهول، فأنطلقت معه في الطريق بإتجاه وجهتنا التي يعرفها هو، و إذا كان المفروض هو أنني من يقود المسير لأنني المبصر ففي واقع الأمر هو من كان يقودني رغم أنه هو الكفيف !!
...
كي لا أُطيل نكمل المشوار مع الشيخ فكري بالغد إن شاء الله و نقص نادرة يحكيها هو عن نفسه.