عندما توقف بعربته ليقل هذه المرأة، كان الزمان قد تطور قليلا فهو قد كان بإستطاعته أن يوقف العربة لتركب السيدة بعد أن كان لابد أن تركب و العربة تسير مثلما كان حال الجميع مع عربية مِرزة !!
...
رغم مرور كل هذا الزمن فمازال الجميع يتندر و يتذكر تلك الواقعة التي حدثت مع عبد السند، الخفير بالعمدية، عندما جاء صارخا من على البحيرة قاطعا الطريق الرملي جريا و متسلقا برشاقة و خفة كوم الشامي المرتفع برماله الناعمة كأنه يتسلق نخلة و أنطلق وسط البيوت المترامية متجها لدوار العمدة و هو يصرخ بكل ما اوتي من قوة :
حمار حديد ماشي على السكة يا حضرة عمدة !
حمار حديد ماشي على السكة يا حضرة عمدة !!
و أكتشفوا بعدها أن هذا الإختراع يسمى عجلة..بيسكلتة !!
..و على الرغم من أنهم جميعهم كانوا متشاركون في جهلهم بهذا الشئ..أو بهذا الحمار الحديد إلا أن التندر ارتبط بعبد السند لأنه هو من أعلن جهله بهذا الشئ أولا..هذا الشئ الذي قد ملأ عليهم الآن كل الشوارع الأسفلتيه التي كانت يوما بحر رمال، و ربما أيضا أسطح المنازل الخرسانية التي كانت يوما ما جذوع شجر و نخل و بوص !!
لذلك عندما سمعوا صوت أول زمارة(سرينة) لعربة مرزة كان هذا بمثابة عيد لم و لن يعيشوا مثله أبدا !!
...
ربما هو مازال يتذكر ذلك اليوم الذي وجد فيه قريبته عزيزة قد جن عليها الليل و هي مازالت لم تقطع نصف الطريق لمنزلها بعد عودتها من الحقل، كان بصحبتها ما يقارب العشر عنزات-فهي لابد أن تصحبهم صباحا للحقل و تعود بهم مساءا للمنزل فلا تستطيع تركم بالحقل ليلا فقد تتم سرقتهم كما حدث مع رزق أبو اسماعيل!!- وقف لها و دعاها للركوب، ولولا أنها قد تأخرت بالفعل ما كانت ركبت، فهي مازالت لم تتخطى المعسكر الحربي و لا ذلك الرادار المنصوب على قمة تلة بوسطه، كانت تخشى هذه المنطقة ولا تدري لهذا سبب، ربما لو كان هذا بعد سنتين أو ثلاثة لكان عندها سبب كاف، فقد قام الطيران الإسرائيلي بقصف هذا الموقع و حطم الرادار و قتل من كان موجود من الجنود، يقول من شاهد هذه اللحظة أنهما كانتا طائرتان و ما حدث هو أنهما قد أتيتا من جهة الغرب، من البحر المتوسط، و أتجهتا شرقا بإتجاه هذا الموقع و قد كانتا تطيران على مستوى منخفض جدا تكادا تلامسا سطح ماء البحيرة، بطول البوتن الخرساني المقام ليحجز ماء البحيرة من الوصول للطريق، و هو ما جعل الرادار يعجز عن التقاطهما، و لم يشعر من كان بالمعسكر بأي شئ إلا بإنسلاخ أرواحهم مغادرة أجسادهم التي قد حُرقت أو تمزقت متجهة إلى بارئها..
ربما هذا لم يؤثر في أهل القرية كثيرا، فهم كانوا قد إعتادوا على هذا،قد إعتادوا على أخبار القتل و الدمار،و كان قتل الإنسان في هذا الزمان قد وصل إلى مرتبة أولى من مراتب الأحداث المعتادة أو العادية،فالحروب لا تصنع موت و دمار و فقط، بل تصنع إنسان متبلد المشاعر أيضا.
ولكن ما أثر فيهم جدا هو فرسة محمد أبو رمضان،صاحب العربة الكارو التي يستخدمها معظمهم في الذهاب الى الطاحونة أو نقل أغراضهم في الارض الرملة، فقد هربت و جرت منه شاقة طريقها بوسط المعسكر الذي سار مهجور بعد ما أصابه من دمار وما حدث أن تلك الفرسة المسكينة قد داست على لغم فأطارها في الهواء ثم أنزلها إلى الأرض أشلاء..
..
ركبت معه عزيزة بعد أن وضع بجانبهما العنزات العشر في كابينة العربة !!
فكرت هي أنه لو كان مرزة ما كان أبد دعاها تركب بعنزاتها!! وكيف تركب من الأساس و عادة تكون عربته مزدحمة بالركاب و تجدهم قد تشعلقوا في كل مكان أو تشبثوا بأي قطعة حديد بالعربة، ومن يريد أن يركب او ينزل فعليه أن يفعل ذلك و العربة سائرة لأنها إن توقفت قد تأبى أن تسير بعدها ثانية !!
أما هو فقد كان زبائنه قليلون رغم أنه يتوقف لهم في الركوب و النزول و رغم أنه شهم لا يتخلى عن أحد فلو طلبت منه أن يضع حمارك على عجلة القيادة لفعل !!،ربما هي أرزاق كما كان يقول لنفسه !!
...
عندما توقف لتلك السيدة و أركبها شكرته جدا بعد أن لمست فيه روح الشهامة فقد حمل معها حملها و وضعه في العربة بدلا منها، و عليه فقد بدأت معه حوار ودي..
-هي :
شكلك إبن حلال يا أبني
- هو :
ربنا يكرمك يا حاجة
- هي : دا أنت حتى باين عليك نضيف و عربيتك نضيفة و هادي في السواقة !!
- هو :
كله على الله يا حاجة
- هي و قد استحضرت في بالها شخصية أخرى لتعقد بينهما مقارنة :
دا انا حظي حلو اني ركبت معاك و الله..ثم استدركت، دا أنا أسمع عن واحد اسمه هادي حسين، و هو لا هادي و لا حاجة !!، ما فيش يوم الا و يعمل حادثة !!
- هو :
و الله يا حاجة الحاجات دي قدر و نصيب
- هي :
صحيح يا بني..بس برضة الواحد يبقى واعي و ياخد باله زيك كدة !!
- هو :
ربنا يكرمك يا حاجة !!
- هي وقد شعرت أخيرا أنه يسير بسرعة كبيرة و يأكل المطبات ولكن لإندماجها في الحديث لم تلاحظ :
براحتك يا بني شوية..إنتى بتجري بسرعة كدة لية ؟!
- هو :
ما هو جري العربيات كدة يا حاجة !!
- هي :
كدة بس إزاي يا ابني ؟ بالراحة بس خلي ربنا يسترها !!
..لم يُعقب، فزادت هي :
ما تفكرناش باسمه ايه ده !!
- هو وبلامبالاة :
يا تسكتي يا حاجة يا تصوتي ..أنا هادي حسين و العربية ما فيهاش فرامل !!
...
يتذكر هادي بعد عودته من حرب اليمن-و قد كان هو متيقن أنه سيعود،فهو لن يسمح لمرزة وحده أن يتمختر على الطريق بعربته الخَرِبَة دونه، وان كان ما حدث بعدها هو أن الطريق إمتلأت عربات تنافس مرزة بعربته التي لا تتوقف، بعد أن تمت سفلتت الطريق بعد أن كان حجارة، و ما حدث أيضا أنه قد غادر القرية بأكملها و سافر إلى أم الدنيا تاركا وراءه أهله و لهجته..و ربما طباعه!، عاد بعد أن ظن الجميع أنه قد مات مع من ماتوا من شباب القرية و من سيموتون !!، يتذكر ذلك الموقف، الذي لم يكن من تلك المواقف التي تجد فيها نفسك تحت سماء من نار و تتساقط عليك الرصاصات و القنابل و الدانات كالمطر، فهذا شئ عادي، و لا تلك المواقف التي تجد فيها نفسك قد حُوصرت بجثث رفاق السلاح الذين كنت تتحدث معهم منذ لحظات مضت،فهذا أيضا عادي فقد تكون أنت المغادر التالي، لكنه تذكر ذلك الموقف عندما تعطلت سيارته في وسط الجبال في ظلمة الليل و كان وحده في طريقه لأحد المعسكرات لإحضار بعض الجنود و المؤن- وقد كان سائق لإحدي عربات نقل الجنود- خرجت عليه غوريلا من وسط الجبل،رءاها واضحة بعينيها اللامعتين كأنه يراها في وضح النهار،أيكون مصيره بين أنياب و مخالب غوريلا ؟ فكر ان يتصدى لها متخذا من أي قطعة حديد سلاح للهجوم و الدفاع- فهو لم يكن يملك سلاح ناري فهناك من الجنود من هو أحق به منه- و هو يظن نفسه أقوى من الغوريلا،فقد كان قوي الجسم مفتول العضلات، و كأنه قد قرر المواجهة فلن يهرب..ولن يموت فهناك في انتظاره أمه و أبيه وأخوته و أهله..و مرزة بعربته !!
و لكن أتاه هاتف دوى صوته و صداه بين الجبال عاليا، أن لا تفعل، لم يتردد و أمتثل للنداء و قفل عليه أبواب سيارته، وتذكر كل مغامراته و كل حوادثه التي يشيب الوليد لرؤيتها، فقد كانت كل حادثة تهشم العربة إلى أجزاء و هو بداخلها و العجيب أنه كان يخرج من جميعها سليم، اللهم إلا من خدوش بسيطة !!
حتى أنه ذات مرة و قد انقلبت به العربة على الطريق عدة مرات متتالية و وقفت به أخيرا- وقد سترها الله و لم تصيب أحد- أمام مجموعة من السيدات قد جلسن يبعن الخضار و الفاكهة،خرج من عربته التى كانت قد تحولت لقطعة خردة،و ترك من كانوا قد التفوا حولها ليخرجوه و قد علت أصواتهم :
لا حول و لا قوة الا بالله..يا رب سترك !!
لا حول و لا وة الا بالله..يا رب سترك !!
تركهم جميعا يخاطبون ذهولهم، ثم ذهب للسيدات البائعات و توقف أمام إحداهن و أخرج من جيوبه بعض الملاليم و قال لها :
اوزني لي كيلو عنب يا حاجة خليني أضيع أثر الخرعة(الخضة) دي !!
...
يبدو أن الحياة تتشبث بنا جدا، عندما ترانا نغازل الموت و نتحداه ليل نهار !!
...
و هنا قال يا بركة دعاء الوالدين..و أدار الكونتاك فدارت العربة و نفد كما ينفد كل مرة !!
...
....
و ينال المفازة كل مغامر
ردحذفالقصة جميلة جدا
و فكرتها بديعة
الحياة تتشبث بنا حين نتحدى الموت
روعة يا صديقي
تحياتي
أشكرك دكتور مصطفى، دوما تنير المدونة بوجودك و تشجعني بمدحك و كلماتك المحفزة..تحياتي
ردحذفيبدو أن الحياة تتشبث بنا جدا، عندما ترانا نغازل الموت و نتحداه ليل نهار !!
ردحذفرووعة الجملة دية
واسم مرزة ده يجنن أول مرة أعرفه
جميلة القصة
دايما أفكارك غريبة وجديدة بس ممتعة جدا
تحياتى لخيالك الرائع
عمر الشقي بقي
ردحذفإحرص على الموت توهب لك الحياة
طول الوقت وأنا بقرأ حاسس انها قصة حقيقية .. حدث بالفعل يعني
طريقتك حلوة أوي في السرد والوصف يا أحمد ما شاء الله
بالتوفيق دايما
صباح الغاردينيا احمد
ردحذفحين أقرأ لك أرى الأحداث أمامي
أتتبع سطورك بإستمتاع
رائع هو سردك ورائعة القصص من بين أناملك "
؛؛
؛
لروحك عبق الغاردينيا
كانت هنا
Reemaas
اعذرنى على التأخر فى الرد أولا يا صديقى
ردحذفوثانيا بجد هموت من الضحك على الجملتين دول
1- يا تسكتي يا حاجة يا تصوتي ..أنا هادي حسين و العربية ما فيهاش فرامل !!
2- اوزني لي كيلو عنب يا حاجة خليني أضيع أثر الخرعة(الخضة) دي !!
بجد مبدع واسلوبك يمثل اديب واسع الثقافه
تحياتى
في جمله عبقريه وهى ان الحياه تتشبث بنا
ردحذفاعتقد انها منطقيه جدا فهى لا تتركنا تتمسك بنا جيدا حتى
تستنفذ حياتنا ونسلبها نحن اراداتها في بعض احيان ولكن يبدوا ان الطرفين متشبثين جيدا ببعض :)
القصه بفكرتها بموضوع حمار حديد بيجري علي الطريق دة
بجد روعه حتى نقلك في الاحداث لم يجعلنى اتوه :)
تحياتى
اسلوبك جميل ويتميز انك تقرا بدون ملل
ردحذفوماشاء الله تضع عبارات لطيفة