الجمعة، نوفمبر 01، 2013

لقاء بطعم الدماء


رأت من قبل حوادث كثيرة، وجثث قتلى غطت دماؤها الإسفلت، لكنها عندما نظرت إلى جثة ذلك الشخص الذي صدمته السيارة المارة بجانبها على الطريق، والممد غارقاً في دماءه والمؤكد أنه قد فارق الحياة لتوه، لم تشعر بحزن وشفقة كالتي شعرتها من قبل والتي تشعرها هي وغيرها في مثل تلك الحالات، عندما يكون الشخص الغارق في دماءه هذا لا يمت لك بصلة، فقد شعرت - وهالها ذلك - بألم وحرقة في قلبها، وسمعت روحها تنوح كـأنها تعرف ذاك الشخص الممد على الإسفلت ميتا غارقا في دماءه، أو كأنه قريبها، عمها، خالها، أبوها...أو زوجها!
ربما أرادت منساقة خلف هذا الشعور، ومن تأثير تلك النظرة التي رأته يوجهها إليها هي مع بسمة من شفتيه قبل أن تفارق روحه الدنيا، أرادت أن تشق جمع الناس الذي التف من حوله، وتصل إليه وتحتضنه وتشرب جسدها بدمائه، وتبكي وتصرخ بشدة...
...
- هذه هي فتاة أحلامي
قالها لصديقه الواقف بجواره تحت شجرة في أحد الشوارع وهما ينظران إلى فتاة تمر بمحاذاتهما على الجانب الأخر من الطريق.
ثم قال مستطردا في حديثه :
- أتذكر حين سألتني عن مواصفات الفتاة التي تعجبني وأجبتك بأنني لا أعرف ولكني إذا رأيتها سأعرفها؟
ويومئ له صديقه برأسه علامة على الإيجاب
فيكمل هو وهو ينظر إليها وقد أوشكت على الاختفاء في نهاية الشارع :
- وها هي فتاتي، عرفتها منذ اللحظة الأولى التي وقعت عليها عيناي فيها، ذاك اليوم غير البعيد التي قابلتها فيه صدفة، أو قل مررت في طريقها أنا صدفة ورأيتها، أظنها لم تلتفت لي، وربما لم تراني ولم تلاحظني من الأساس فقد كانت منطلقة في طريقها لا تلتفت لشيء أو لأحد.
فيقول صديقه وفي لهجته بعض السخرية:
- نعم أعرف، فمنذ ذاك اليوم تأتي بنا إلى هنا كل صباح لننتظرها وهي تمر ذاهبة إلى عملها وتعطلنا نحن عن عملنا!
ثم ابتسم في ود، فرد له صديقه الابتسامة وهو يقول:
- أنت صديق عمري، ويجب أن تساندني في مثل تلك المواقف!
- أكيد يا صديقي
ثم أكمل من خلال ابتسامته:
- وموقف اليوم لهذا الصباح قد انتهى، هيا إلى العمل قبل أن نطرد!
فيضحك وينطلقا في طريقهما إلى العمل.
..
- ولماذا انظر للناس إذا كان الناس لا ينظرون لي، ومن سينظر لي ويهتم!
كانت هذه حالتها دوما وهي سائرة في الشارع، لا تنظر لشئ ولا تنظر لأحد، كانت تعتقد أن أحداً لن ينظر إليها، فهي ليست ذات جمال فاحش يغري الرجال، ولا ذات أناقة مبهرة تلفت الانتباه، فملابسها عادية ورخيصة الثمن، ولا تمتطي سيارة فارهة تغريهم فيها، فما هي إلا بنت عادية من أسرة عادية متوسطة الحال، بل في الواقع هي أسرة كل ثروتها (السَتـْر)، الذي هو ثروة المعدمين، فقد مات أبوها الذي كان عامل بسيط يكسب قوته يوم بيوم، رحل وترك لها أختين صغيرتين وهموم حياتية كبيرة. ويبدو أنها متوسطة الحظ أيضاً أو معدومته من الأساس. فقد أنهت دراستها منذ سنوات، ولم يطرق بابها حبيب أو خطيب، دوما والدتها كانت تقول لها، ربما لتصبرها وتجعلها تتشبث بفكرة الأمل بأن القادم أفضل وأسعد بالتأكيد:
إنه النصيب يا ابنتي وسيأتيك نصيبك حتما في يوم من الأيام, وفي مكان من الأماكن، دون تخطيط أو سابق ترتيب.
كانت هي أيضا تعتقد أنه النصيب، النصيب الذي لم يغدق عليها من الجمال أو المال شئ ، فماذا سيجذب إليها الرجال؟ وماذا سيغري الرجال فيها؟!
إن من يسعى لكسب ثمن شراء الخبز قد يبيع مالا يمكن تخيله، كانت تسعى لكسب ثمن شراء الخبز، ولكنها ربما لم تكن مجبرة على بيع ما لا يمكن تخيله بعد.
فعملها بمكتب أحد المحامين، كموظفة متعددة الأعمال، كان يضمن لها ثمن الخبز، ولكنه كان يهتك من حولها ستر الأمان، إذ يوجدها في نفس المكان مع شخص ربما قـَرُبَ جداً حين تطور تحرشاته المستورة إلى تحرشات مكشوفة تعني أنه لا مجال للفرار, ولا مجال إلا للسقوط.
لم تفكر في حب أو قصة عشق ملتهبة، ربما هو رجل، ولو يضمن لها فقط حجرة تضمهما وتسترهما عن أعين الناس، هو القادر على انتشالها من كل هذا، وهو كل تريد.
ولكن كيف وأحداً في هذا الكوكب لا يراها أو يشعر بوجودها كأنها ليست هنا, أو ربما كأنها كائن خفي لا تراه عيون الرجال، أو ربما تراه كمسخ مشوه!
..
في ذاك الصباح صمم أن يذهب إليها ويفاتحها بأنها الفتاة التي يريدها، وأنه يريدها زوجة لها أيا كان وضعها الاجتماعي وظروفها التي عرفها كلها تقريبا، بل إنه سيكون سند لعائلتها.
حاول صديقه كثيراً أن يثنيه عن ذلك، من باب التريث وإعادة التفكير وإعادة الحسابات. ولكنه كان مقتنع وليس في حاجة لإعادة تفكير، فلم يجد صديقه بداً من أن يجعله ينطلق إليها ليفاتحها في الموضوع وإبتسم له وقال:
إنطلق!
فرد له الإبتسامة وهم بالمشي ليقطع الطريق ليصل إليها في الإتجاة المقابل، ولكن صديقه أوقفه بعد أن خطى خطوات وقال له وهو يبتسم:
-لو تأخرنا على العمل اليوم سيتم طردنا!
اختصر، سيكون لديك في الأيام المقبلة الكثير من الوقت!
-ابتسم وانطلق يعبر الشارع.
..
عندما كانت في طريقها إلى عملها ذاك الصباح، كانت تمارس بديهيات يومها، فالطبع كانت منطلقة كالصاروخ كعادتها، وبالطبع كانت لا تلتفت لأحد أو لشئ، وبالطبع كانت تؤمن أن لا أحد يلتفت إليها ولا أحد يراها، ولكنها كانت تفكر في أشياء أخرى تخاصمها البهجة مثلها مثل أخواتها الأفكار الأخريات. فقد كانت أختاها في حاجة إلى لبس جديد، وأمها التي تشتكي من ألم حاد في ضرسها لابد أن تذهب إلى طبيب بعد أن تورمت لثتها بشكل يخيف ويؤلم، وكان يشغلها رب عملها الذي ربما حان الوقت لطوع رغباته مقابل علاوة تحل كل هذه الأزمات، وربما...
...انطلق ليعبر الشارع بينما ينتظره صديقه على الجانب الأخر، كان ينظر إليها ويسرع ليلحق بها قبل أن تنعطف إلى الشارع الأخر، عبر الضفة الأولى من الطريق، وأراد أن يعبر الضفة الأخرى ليصل الرصيف الذي تسير عليه، ولكنه وجد مجموعة عربات تزدحم على الطريق فآثر أن يسير على الرصيف الفاصل بين ضفتي الطريق ليكسب بعض الوقت ويعبر الطريق عندما يصل بمحاذاتها، فسار حتى وصل بمحاذاتها وتخطاها قليلاً، فكر أن يهتف عليها ليوقف انطالقتها المكوكية تلك، ولكنه فكر إنها خطوات قليلة تفصله عنها، وفي غمرة تفكيره نزل بقدمه ليعبر الطريق....
....خرجت من بئر تفكيرها العميق على إثر صوت عالٍ مرعب لفرامل سيارة، فألتفت فإذا بالسيارة قد توقف بجانبها على الأسفلت وأمامها قد تكومت جثة رأت يدها لجزء من الثانية وكأنها تشير إليها...
...عندما رأى صديقه والسيارة تصدمه أصابه الجنون وصرخ بأعلى صوته وأنطلق يعبر الطريق في الاتجاه الذي صدمت فيه السيارة صديق عمره...
... رأت من قبل حوادث كثيرة، وجثث قتلى غطت دماؤها الإسفلت، لكنها عندما نظرت إلى جثة ذلك الشخص الذي صدمته السيارة المارة بجانبها على الطريق، والممد غارقاً في دماءه والمؤكد أنه قد فارق الحياة لتوه، لم تشعر بحزن وشفقة كالتي شعرتها من قبل والتي تشعرها هي وغيرها في مثل تلك الحالات، عندما يكون الشخص الغارق في دماءه هذا لا يمت لك بصلة، فقد شعرت - وهالها ذلك - بألم وحرقة في قلبها، وسمعت روحها تنوح كـأنها تعرف ذاك الشخص الممد على الإسفلت ميتا غارقا في دماءه، أو كأنه قريبها، عمها، خالها، أبوها...أو زوجها!
ربما أرادت منساقة خلف هذا الشعور، ومن تأثير تلك النظرة التي رأته يوجهها إليها هي مع بسمة من شفتيه قبل أن تفارق روحه الدنيا، أرادت أن تشق جمع الناس الذي التف من حوله، وتصل إليه وتحتضنه وتشرب جسدها بدمائه، وتبكي وتصرخ بشدة...
ودون أي إرادة منها أسقطت حقبية يدها، ودون أي وعي وجدت الدموع تفيض من عينيها، ونزلت عن الرصيف وشقت جمع الناس الذين أتوا لما رأوا المشهد ونزلت إليه ودون وعي وبحب وشوق وحرقة أخذته بين ذراعيها وأرقدته على صدرها وأراحت خدها على وجهه الدامي وبدأت بكاء مر..
...عندما وصل إلى مكان صديقه شق جمع الناس ليصل إليه، ولكنه مثله مثل كل الواقفين أذهله المشهد الذي رآه...أخيراً صديقه بين أحضان حبيبته.
وقف مثله مثل الواقفين، فلم يُرد أن يقطع عليهما تلك اللحظة.
..

هناك 22 تعليقًا:

  1. يا الله
    جميلة جدااا
    وحساسة اووي
    تصدق كل مرة اقرا لك قصة احس اني فاشلة ومش بعرف اكتب قصص !!!
    هنيئا لك يا اخي

    ردحذف
    الردود
    1. طبعا، مين يشهد للعروسة، قصدي للعريس! :)
      ..
      أصلا البتاع ده مش عارف أكتب عليه، طارد للإلهام ومنفر للأفكار!

      حذف
  2. يا الله !
    تُحفة بجد
    فظيع احساسك يا أحمد ماشاء الله عليك وربنا يسامحك وجعتلى قلبى وعقابا ليك هغرقلك المدونة دموع

    ردحذف
    الردود
    1. موضوع إني وجعت قلبك، دي حاجة تفرحني، أما موضوع إنك تغرقي المدونة دموع فده شئ يزعلني...أنا لسة كانس وماسح البلاط من شوية ومش هأعيد الموضوع ده كل شوية!
      ..
      مبسوط إنها عجبتك :)

      حذف
  3. ايةوة يا اخويا اعمل نفسك مش عارف
    طب كنت خد الكمبيوتر وسيبلي اللاب
    ثم انا مش بشهد للعريس ولا حاجة دي الحقيقة يا بني

    ردحذف
    الردود
    1. المرة الجاية هأخد الكمبيوتر....واللاب معاه عشان يونسه ! :P

      حذف
  4. وصلت رسالته لكنها متأخرة،
    تحيتي أخي أحمد

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك أستاذ رشيد، يسعدني دوما وجودك.
      كل المودة والتحية.

      حذف
  5. هو أنا لو قلت أنها "عجبتني" .. و سكتت
    هتعرف أد إيه آثّرت فيني ؟

    ردحذف
    الردود
    1. أي حاجة تقولها أكيد هتسعدني.
      وسعيد إني أنتجت حاجة تركت تأثير في حد.
      ..
      أشكرك أستاذ طارق.

      حذف
  6. الحقيقة مش عارفة أعلق أقول إيه من كتر انفعالي وتأثري بالقصة ! .. أول مرة أقرأ لك يا أستاذ أحمد وبجد أرفعلك القبعة إعجاباً بأسلوبك :) .. تأكد إني إن شاء الله هاتابعك من باب حتى إنه الواحد يتعلم منك :)) .. شكراً لصديقتي رحاب اللي جابتلنا اللينك في صفحة الحوليات وأتاحت لنا الفرصة إننا نقرأه :) ..

    ردحذف
    الردود
    1. بداية، سعيد جداً بزيارتك أسماء، ومتابعتك أكيد تسعدني وتشرفني جداً.
      وطبعاً سعيد جداً إن القصة عجبتك وتركت أثر معاكي ويارب دايما كتاباتي تنال إعجابك.
      ..
      كلنا بنتعلم من بعض، والأكيد إنك لو تعلمتي مني شئ فأنا هاتعلم منك أشياء، فكلنا بنتبادل الخبرات والأفكار وكل حد فينا اكيد متميز في حاجة والاخرون بيتعلموا ويستفيدوا منه.
      أشكرك جداً أسماء على كلماتك الطيبة، ودوما أسعد وأتشرف بوجودك. :)

      حذف
  7. يا سلام ولية انا مخدش اللاب والكمبيوتر يونسه هنا
    اية الظلم ده

    ردحذف
    الردود
    1. ساعة التقسيم ربك يفرجها، يمكن الإتنين يكونوا من نصيب الورثة!

      حذف
  8. الله الله
    جميله جدا جدا
    للوهله الاولى لما قرأت الفقره الاولى و بديت بالتانيه ظننت انها قصه مختلفه وانك كااتب مجموعة قصص قصيره جدا...بعدين ادهشني الربط ما بين مشهد البدايه مع الخاتمه ....حلوه الفكره وحلو الاسلوب كتير كتير.

    ردحذف
    الردود
    1. دايما رأيك يهمني جداً أستاذة سهير :)
      ..
      أشكرك على كلماتك الطيبة، ويارب دايماً اكون عند حسن ظنك.

      حذف
  9. الله يا أحمد !
    جميـــــــــــلة ومؤلمــــــــة جدا...
    دام قلمك

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك صديقتي خولة.
      ويارب دايما تنال كتاباتي إعجابك :)

      حذف
  10. رغم الالم والوجع اللي فيها
    بس راااااااائعة
    والفكرة جديدة صغتها بحرفية يااحمد
    صنعت منها سمفونية رائعة متناغمة من غير ملل

    ردحذف
    الردود
    1. ربنا يكرمك أستاذتنا، رأي حضرتك دايما يهمني.
      أشكر لك وجودك الذي يسعدني ويشرفني دوماً.

      حذف
  11. جميل قلمك الرائع اديبنا الرائع .. احمد صالح

    تسلسل رائع ورقى فى احرفك ومعانيك

    راق لى تواجدى بين احرفك وما قدمت

    كل الموده والاحترام لفلسفتك

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك سومه على وجودك وعلى كلماتك الطيبة، وأتمنى أن تنال كتاباتي إعجابك دوماً.
      كل التحية والإحترام.

      حذف

فضفض و قول اللي في ضميرك
مشتاق صديقك لأي قول