الأربعاء، ديسمبر 11، 2013

للمتقين جنات وللمصلين سمك!


- سبحان ربي الأعلى!
قالها المصلي جاره بصوت مرتفع خرق أذنه اليمنى المجاورة له تابعا إياها بتنهيدة مختلطة بسعلة ضعيفة.
- سمك/سبحان، نعم سمك/ ربي الأعلى!
ولكن أتراه بلطي أم بوري?!
تساءل بينما كانت تختلط كلمات فكره الخرساء بتسبيحات سجوده التائهة منسحبة وراء إغراء تلك الرائحة الشهية لسمك يشوى، والتي إخترقت جنبات روحه قبل أن تخترق بعنف فتحات ومجاهل أنفه.
إزدادت الرائحة حتى ملأت جنبات المسجد الصغير، ويبدو أن الرائحة مصدرها أحد البيوت القريبة من المسجد..
-الله اكبر!
قالها الإمام بصوت مرتفع ثم ركع، تنبه هو على أثرها من ترحاله خلف سؤال من أي بيت تأتي هذه الرائحة..
- سبحان/ربما، ربي/من بيت، العظيم/ الشيخ فرحات!
- سمع الله لمن حمده!
- ربنا/ أو ربما، ولك/ بيت، الحمد/ محمد أبو إبراهيم!
- الله أكبر!
كان يقوم بحركات الصلاة بطريقة ميكانيكية، بينما يردد لسانه كلمات الذكر دون أي إنتباه، ولكنه كان منتبه تماما لكلمات أفكاره السارحة خلف رائحة السمك.
- اللهم اغفر لي وارحمني وارزقني من فضلك يا الله!
تسللت لأذنه دعوات جاره أثناء سجوده، فكر في الدعاء هو أيضاً..
- اللهم ارزقني ما اشتهي!
ربما لم يكن في حاجة لإجابة دعاءه مثلما كان في هذه اللحظة.
تقاسمت فكره مع السمك فكرة الجزاء، فالله يجزي المتقين في الأخرة جنات، فهلا رزق المصلين في الدنيا ما يشتهون!
قالوا بأن ثمار الجنة وطعامها سيشبه أنواع ثمار الأرض وطعامها، ليعلم البشر الفرق بين طعام الجنة وطعام الأرض. فهلا ذقنا طعام الأرض حتى إذا ما دخلنا الجنة استطعنا المقارنة!
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله!
سلم خلف الإمام، ومد يده لجاره بالصف الذي مد إليه يده، راداً على "حرما" بـ "جمعاً إن شاء الله".
جلس يختم الصلاة بينما رائحة السمك مازالت تطارده، وملأ نظر خياله طبق سمك مشوي مزين بالطماطم والخضراوات تتصاعد منه الأبخرة ناشرة رائحته الشهية ومخترقة كل مسام إحساسه. لم يشوه هذه الصورة إلا السطوع المفاجئ لطبق البصارة الذي يوقن تماماً أنه بإنتظاره على طاولة الغداء بالمنزل!
أنهى صلاته ثم خرج من المسجد، توجه ناحية أم حمادة بائعة الفجل والجرجير ليشتري منها حزمة جرجير تهون من وقع طعم البصارة الأبدي بفمه، طلب منها حزمة جرجير، من تلك التي ثمنها نصف جنية لا تلك التي ثمنها جنية!
تناول حزمة الجرجير وأطبق عليها يده كأنها كنز يخشى إنزلاقه من يده أو ضياعه، راودته رؤيا السمك مرة أخرى، كان يستمتع بها وأصبح الأن يكرهها، فما جدوى الحلم بما لا ينال!
ابتعد عن المسجد ووضع قدميه على بداية الشارع الموصل لبيته، صدمت أنفه رائحة سمك يُشوى، وكأن أهل هذه المنطقة قد إجتمعوا ضده وأبوا إلا أن يعذبوه!
تتبع مصدر الرائحة محاولا معرفة مكان صدورها، ولكنه لاإرادياً وبغتة تجاهل موضوع الرائحة وحاول طردها من فمه بتنشق رائحة الجرجير الذي رفع حزمته إلى مستوى وجهه ودس بها أنفه وشرع يتنشقها بعمق كمن يتنشق عبير زهرة شهي، إستفاق على صوت أم جمال جارته على أول الشارع وهي تخاطبه متسائلة في سخرية:
- حزمة جرجير دي يا أبو محمد ولا بوكية ورد؟!
ثم تبعت سؤالها بضحكة خفيفة.
التفت إليها بملامح جامدة تحولت إلى رسمة بؤس مشوهة، وأجابها وهو يُبعد حزمة الجرجير عن أنفه، متصنعاً بعض اللطافة:
- الورد للستات إللي زيك يا أم جمال، أما إللي زي حالاتنا فأخره جرجير!
ضحكت أم جمال وعرضت عليه ان يتفضل ويتناول عندهم الغداء، ثم تبعت عزومتها بالعبارة الشهيرة:
- ولا أنتو عندكم أكلة حلوة؟!
حاول الضحك ثم قال:
رزق ربنا كله حلو...السمك زي البصارة، كله نعمة!
ثم انطلق وهو يلوم نفسه على النطق بمالا يؤمن به، هل السمك مثل البصارة؟!
تابع سيره، ولكن أبت رائحة السمك إلا مطاردته، كان قد إقترب من منزله ولاحظ أن الرائحة تحوم من حول منزله.
خطرت له فكرة أبهجته، ولكن كل معطيات الواقع تنفي وتدفن إحتمالية حدوث هذه الفكرة، فمستحيل أن يكون مصدر الرائحة بيته!
راودته الفكرة ولكنه نبذها فهو ليس حمل صدمتين، صدمة البصارة وصدمة خيبة فكرة أن بيته مصدر رائحة السمك.
أزاح باب البيت المفتوح، ووجد زوجته في المطبخ بينما ولداه وبنته الصغيرة متحلقون حول المائدة في إنتظار وصوله، إنتبهت زوجته عند دخوله فألتفتت ناحيته وهي تقول:
- حمد الله على السلامة.
لاحظت حزمة الجرجير في يده فقالت:
- هات الجرجير أغسله.
سارت نحوه وتناولت الجرجير من يده التي مدها ناحيتها في كسل واستسلام. فكر أن يسألها ماذا حضرت على الغداء، ولكن كان بينه وبين طاولة الطعام خطوتان، وسيرى بعينيه ماذا أعدت للغداء، والذي يعرفه تماماً!
مسح بنظر المائدة، طبق به قطع خيار مخلل وبعض قطع الليمون، طبق به بصلة مقطعة طرنشات وعليها نصف ليمونة خضراء، رصة من خبز أسمر مدعوم لا تعرف وجهه من ظهره، ثم طبق عليه غطاء.
في العادة تترك زوجته طبق البصارة مكشوف، فلما قامت بتغطيته هذه المرة؟ أم أنها ليست بصارة؟ ربما هي..قتلته هذه الفكرة!
قطعت عليه زوجته سرحانه، وقد غسلت الجرجير وأتت به في طبق، وسألته:
- ما بتقعدش ليه؟
هتاكل وانت واقف؟!
نظر إليها وسألها كأنه يتضرع:
- هو الطبق المتغطي ده فيه إيه؟
أراد أن يسد أذنه كي لا يسمع الرد، ولكنه تماسك بينما زوجته تجيبه:
- هيكون إية؟!
بصارة!
إزدرد ريقه المر بصعوبة بينما زوجته تكمل وهي ترفع الغطاء عن طبق البصارة:
- العفريتة ندى لعبت في الطبق فقلت أغطية لغاية ما تيجي!
إقترب بوجهه من الطبق، ونظر فإذا على سطحه قد إرتسم وجه بإبتسامة ساخرة، نظر ناحية طفلته الصغيرة وتسائل هل بإمكانها رسم هذا الوجه وهذه البسمة الساخرة؟
جلس في إذعان وسكينة وقد أيقن أن هذا الوجه وهذه البسمة الساخرة ليست يد إبنته من رسمتها، بل يد القدر!
..

هناك 6 تعليقات:

  1. مالها البصارة يا سيدى زى الفل والله

    ردحذف
    الردود
    1. وهو أنا إللي معترض على البصارة؟!
      دا هو! :)

      حذف

  2. حلوة الفكرة دى أوى
    بحب قصصك أوى .. يخربيتها تجنن
    جوعتنى ربنا يسامحك
    بس الصراحة مش عايزة أكل سمك ولا بصارة
    العدس حلو فى البرد ده
    امى حبيبتى كل يوم الصبح تسألنى السؤال المعتاد " أعملكم أكل ايه " وأنا نفس الرد " أى حاجة يا ماما مش هتفرق " بكرة اجابتى هتكون مختلفة " عدس "

    ردحذف
    الردود
    1. عدس؟!
      تعالي اقعدي جنب أبويا، واضربوا عدس سوا! أصل العدس أكلته المفضلة!
      ..
      شوفي هتدفعي كام وأنا كل يوم أنشرلك حدوته من النوع ده مخصوص! :D
      ..
      على فكرة بقى سؤال أعملكم أكل إيه؟ ده، مش بيتسأل غير لأكتر واحد في البيت بيعز الأكل وبياكل كتير! :P
      ..

      حذف

    2. لأ يا ذكى .. ده حتى أمى بتتحايل عليا عشان أكل .. وفاكرة النسكافيه هو اللى بيسد نفسى .. بس بما انى أنا اللى فاضلالها فى البيت وكل يوم الصبح بتلاقينى فى وشها يبقى مش هتلاقى غيرى تسأله
      محوشة 60 جنية مرة واحدة .. هجيب نسكافيه وبسكوتات .. ولو فضل حاجة مش هعزهم عليك
      طب قول لوالدك انى جاية أنا وعفاريتى .. بس مين هيعمل العدس ؟ مش أنا طبعا الا لو حابب تخلص من والدك

      حذف
    3. إن بعض الظن إثم، شوفي وانا إللي كنت فاكر إنك بتعزي الأكل! :D
      ..
      طيب ما تديني حقي ناشف أجيب بيه إللي انا عاوزه؟ بصي إديني 55 وخدي ليكي 5!..مش طمع على فكرة، انا بس بأحب رقم خمسة فهاخد خمستين! :D
      ..وعلى فكرة بقى الـ 60 جنية دول أصلاً معاكي بقالهم سنين..يعني زمانهم باظوا!
      ..
      جاية بعفاريتك؟
      لأ مش عاوزين! :)

      حذف

فضفض و قول اللي في ضميرك
مشتاق صديقك لأي قول