تتشابه
الديانات- السماوية على الأقل- في جوهرها. فمصدرها واحد، ربنا سبحانه وتعالى. وهي
أداة الإتصال الرسمية بين العبد وخالقه، وأداة الإتصال بين العبد وأغوار نفسه إذ
يلقى فيها الروحانية التي تعينه على ذلك.
ويتشابه رجال
الدين-الوعاظ والفقهاء- في جميع الديانات -على الأقل في العصر الحديث- ببعضهم
البعض، فهم يسعون لفرض سيطرتهم على أرواح وعقول الناس، وإثبات فساد باقي البشرية
قبل إثبات صلاح أنفسهم!
مجتمعاتنا العربية
الإسلامية تمر اليوم بمرحلة أشبه بتلك التي مرت بها أوربا المسيحية في القرون
الوسطى، إذا أدى تسلط الكنيسة وتسلط البابوات ومن يدرج تحتهم من قيادات الكنيسة
ورجال الدين إلى تأفف المجتمع منهم، حتى وصل هذا التأفف والسخط إلى معاداة لرجال
الدين وصلت إلى كراهية للكنيسة ذاتها. وظهر في المجتمع ما سمي بالتدين الشعبي، أي
ممارسة الدين والتدين دون الحاجة الى رجال الدين أو الكنيسة.
وربما كان هذا يمثل
أول حجر فعال في صرح العلمانية الذي بدأ في التأسس على يد مفكرين وفلاسفة قد
ذاقوا-كما ذاق أسلافهم- الأهوال على يد الكنيسة، وبدعم وتأييد من المجتمع الذي
عاني من وطأة تسلط الكنيسة ورجال الدين من ناحية، وتسلط الملوك ورجال الحكم من
ناحية أخرى، فقرر في النهاية أن يصنع لنفسه سلطة واحدة!
عندما ننظر اليوم في
مجتمعاتنا العربية وإلى زمر المشايخ التى أصبحت لا تنقطع عنا طلتها في كل مكان وفي
كل وسيلة من وسائل الإعلام، يمكننا بسهولة أن نعرف سبب نفور الناس-الذين ربما
جميعهم يحافظون على فروض دينهم وربما منهم المتدين جداً، فلا هو يكذب أو يسرق أو
يزني أو يرابي أو ينافق، يفعل الخير ويمتنع عن فعل الشر- من هؤلاء المشايخ.
فالواقع أن رجل الدين
تحول من وجه بشوش يريحك، إلى وجه منفر يصيبك بالعصبية، تحول من روح ترتاح في
حضرتها وعقل تنهل من علمه، إلى روح تشعر بغائيتها وربما نفاقها وإدعائها، وإلى عقل
لا ينضح إلا فكر أسود. تحول من مرشد إلى حاكم وسلطان.
وعليه فلا عجب أن تقرأ
حديث الرسول-صلى الله عليه وسلم- الذي ذكر ثلاثة من أول من تـُسَعّر بهم النار يوم
القيامة، ومنهم عالم، أو رجل آتاه الله العلم. ولماذا تـُسَعّر به النار وهو قد
عَلـَّم الناس؟ لأنه فعل ذلك ليقال عليه عالم، وليكن له سلطة على الناس يقودهم
بالترهيب ويوجههم بالترغيب.
رغم أن الدين نفسه قد منح معتنقه وغير معتنقه الحرية،
وحمَّله مسؤولية أفعاله وقالها صريحة "كل نفس
بما كسبت رهينة"
فالدين لا يمثل سلطة ولا يمنح سلطة، لا يضع قيوداً بل
يضع قواعد ويمنحك الحرية في أن تكون مسؤول وتحترمها أو أن تتنازل عن مسؤوليتك
وتنتهكها، وفي كلتا الحالتين لك جزاء، حسن أو سئ، على حسب ما قدمت يداك.
ولكن هذا لا ينفي أن
لكل شيخ طريقة، ولكل طريقة من يعتنقها ولكل شيخ من يتبعه ويريده. فربما من تنفر
أنت منه يحبه -بل وربما يقدسه- غيرك.
ولكن
المجتمعات تتناسخ، وتتوارث نفس الفئات من البشر، وما حدث قديما بأشخاص أغبياء أو
عقلاء قد ماتوا قد يحدث الأن بأشخاص أغبياء أو عقلاء سيتصارعون حتى الموت.
وإذا كان الله قد قال عن المشركين والكفار القدماء:
وَإِذَا
قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ
مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ
يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ.
فإنه
لا عجب إن جادلت أحدهم وقلت له يقول الرسول كذا، أو يقول القرآن كذا، فلماذا تقول
كذا أو تفعل كذا؟ ويكون رده:
هذا
ما وجدنا عليه شيوخـَنا!
أو
هذا ما علـّمنا إياه شيوخـُنا!
فأولئك
قد قالوا هذا ما وجدنا عليه أباءنا ولم يقولوا هذا ديننا، وهؤلاء قد قالوا هذا رأي
شيوخنا، وهذا ما وجدنا عليه مشايخنا، وليس هذا رأي ديننا أو ما يقوله
ديننا، لأنه تعلق بالأشخاص لا بالعقيدة أو الدين.
ولا
عجب- وأقولها للمرة الثانية- أنك ستجد بيننا من إذا عاد النبي محمد لقالوا له إرحل
وعد من حيث جئت، إرحل فنحن لم نرك ولا نعرفك ولسنا في حاجة إليك، فلدينا مشايخنا
وقادتنا ومرشدينا!
..
عندما
ننظر للدول الإسلامية التي على رأسها سلطة دينية، أو تمنح بعض الهيئات الدينية
سلطة تنفيذية، أو تطبق الشريعة الإسلامية(مثل السعودية والسودان)، وللدول
الإسلامية التي دستورها علماني(مثل تركيا) فقد تتضح لنا الرؤية قليلاً.
فالواقع
أن هناك علاقة طردية بين السلطة والتمرد، كلما إزدادت السلطة كلما إزداد التمرد،
حتى لو كانت هذه السلطة تصطبغ بصبغة دينية، أو سلطة تجلب لنا المتعة والمنفعة.
فإذا
نظرنا للدول التي تطبق فيها الشريعة الإسلامية-بغض النظر عن إتفاقنا أو إختلافنا
في مدى صلاحية وتوافق ما يتم تطبيقه مع الشريعة الإسلامية أو مدى فساده وإختلافه-
سنجد أن التمرد على السلطة الدينية -ولا أقول على الدين- هو رد الفعل الطبيعي من
المواطن، حتى وإن كان ما تأمره به هذه السلطة يريده ويمارسه بالفعل. ولكنه التمرد
على السلطة ورفضها. وخاصة السلطة الدينية، لأنها تمثل طعن في أخلاق وربما عقيدة من
تـُمارس عليه. فالواقع أنك قد تجبر أحدهم على الرذيلة ويسامحه الله لأنه كان مجبر،
أما الفضيلة فلا مجال للإجبار فيها، فلا أحد بإمكانه فرض الفضيلة على أحد حتى وإن
أقصاه عن الرذائل وأماكنها ووسائلها، إذ تبقى روحه تواقة إليها وراغبة فيها. هي
إختيار وليست إجبار.
وإذا
إنتقلنا إلى دول إسلامية دستورها علماني صرف مثل تركيا، لوجدنا أن شعبها متدين
جداً!
أو
دعونا نقول أن من أتيحت له الفرصة للتخلص من دينه وساعدته دولته، بسلطتها
وبدستورها، على ذلك، أبى إلا أن يتمسك بدينه، وأختار ذلك وعمل له، لأن ذلك شئ
يريده.
بينما
على الجانب الأخر نجد أن من أوجدت له دولته سلطة دينية تحكمه وتتحكم فيه، يتمرد
على هذه السلطة، ربما تمرد يجعله يفرِّط في دينه أو يأتي ما لا يأته أهل الإباحية
والرذائل!
ولكننا
كي نفهم المعضلة على الشكل الصحيح فإننا يجب أن لا نكون بتلك السذاجة التي تجعلنا
نؤمن أن خلاصنا في النموذج الأوربي أو الأمريكي، بالتوصيفات التى قد تتعد.
فمثلاً عندما
طبّق اتاتورك العلمانية في تركيا-التي كانت مقر الخلافة الإسلامية- ربما هو
طـَبَّقَ مالا يصلح للتطبيق حيث طـُبِّق، بل وغالى وبالغ وتتطرف في تطبيقه، فهو لم
يطبق العلمانية الجزئية، وربما تخطى العلمانية الشاملة!
بعد
-وربما قبلها بقليل مع بداية حركات الإصلاح الديني- الثورة الفرنسية التي صنعت
حراكاً مجتمعياً على كل المحاور في أوربا، وما تلاها من ثورات صناعية وعلمية،
أفرزت الحركات الفكرية والشعبية فكراً أبهر الشرق، وعلى رأسه العالم العربي
الإسلامي، الذي كان قد تدهور حاله بعد قرون من صراعات حربية داخلية وخارجية،
وصراعات فكرية ودينية عقيمة أتت بنتائج سلبية. وربما وجد في هذا الفكر والعلم
الوسيلة المثلى للإلتحاق بركب الحضارة الذي قادته أوربا وأختفت به في أعالي الأفق
غير تاركة وراءها من أثر يمكن تقفيه.
ولكننا
يجب أن نعرف نقطة بسيطة عن الفكر الأوربي قبل التثبت بالإيمان بيقينية كونه سبيل
الخلاص.
فالفكر
الأوربي في ذاته فكر مركزي، أي خلقته وأبتكرته أوروبا ليطبق في بلدناها-التي يناسب
خلفيتها الدينية والمجتمعية والثقافية- ولتباهي به غيرها من البلدان دون أن تأبه
لتنفيذه وتطبيقه فيها كما هو مطبق في أوربا.
بمعنى
أنه لا يجب أن تخدع نفسك مثلا وتصدق أن أوربا تسعى أو تريد تطبيق الديموقراطية -أو
أيا ما يكن عنوان المصطلحات المستخدمة- على البلدان العربية أو الإفريقية، فهي
تريد أن تظل مميزة، وفي مرتبة أعلى.
كذلك
إن نظرنا إلى أمريكا وفكرها فإننا يجب أن لا نتجاهل بل أن ننتبه لما يسمى؛
الأنتينوميانية الأمريكية American Antinomianism والأنتينوميانية هي الإعتقاد بأن النص
المقدس، بمصدره الواحد السامي وبكماله، يغني عن أي وكل قانون أخلاقي أخر.
والانتينوميانية الامريكية هي مذهب إستغناء الثقافة الأمريكية -المقدسة السامية-
عن كل ثقافة أخرى. وإذا كانت أمريكا قد جعلت من ثقافتها شئ مقدس فهل تعيره لغيرها
من الأمم؟ أو تستبدله بغيره أياً كان؟ هل ستوزع علينا ديموقراطيتها وقيمها التي
أكد مفكروها أنها تمثل أعلى ما قد تصل له الإنسانية، لذلك فنحن في نهاية التاريخ
الذي كتبت أخر سطوره أمريكا؟
أم هي في الأساس تحاول وتحارب- مثلها مثل أوربا- أن
تحافظ - وتزيد- مستوى التمايز بينها وبيننا؟
ففي الواقع أن السعي خلف النموذج الأوربي أو الأمريكي هو
سعي غير مشكور، ونتائجه لن تشرح الصدور. وفي الواقع أن النموذج الإسلامي هو الأفضل
على الإطلاق، فقط نحن في حاجة إلى تنقيته وتطهيره من الأدناس الفكرية التي تراكمت
على سطحه طوال قرون من الزمان. في حاجة إلى العودة إلى الجذور، في حاجة إلى النظر
في الأصول النقية لا في الشروح والحواشي التي أصابها التلوث.
في
حاجة إلى نسف العقيدة القديمة، والبدء على أرضية بيضاء طاهرة نقية.
في
حاجة إلى الخلاص من كل سلطة على الروح أو العقل وتركمها يعملان بحرية وإرتياحية.
في
حاجة لأن يعلم مشايخنا أن نبي هذا الدين قال إن أنا إلا نذير، ورب هذا الدين قد
قال له إن انت إلا نذير. فكيف لهم أن ينصبوا أنفسهم أمراء وسلاطين؟
وكيف
لهم أن يهملوا في حق الباحثين عن هذا الدين يبغون معرفته واعتناقه، وينشغلوا بربقة
وإستعباد من اعتنقوه، وبخوض جدالات سفيهة، وترديد دعاوى حمقاء على أهل الكفر
وبلادهم؟!
في
حاجة لإستفاقة جماعية، تعيدنا إلى مسارنا الصحيح بدلاً من إستجداء التبني أو
الكفالة ممن قديما كان متشرد رضع من صدر حضارتنا.
..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
فضفض و قول اللي في ضميرك
مشتاق صديقك لأي قول