الاثنين، يونيو 25، 2012

فهو ليس لديه وقت !!


    كان يمشي مسرعا فهو يريد أن ينهي هذه (المصلحة) في أسرع  وقت و يعود إلى مصالحه و أعماله، فهو ليس لديه وقت ليضيعه ولو أن هذه ( المصلحة) لا يجوز لغيره أن يقوم بها مكانه ما جاء من الأساس، ربما لم يكن يلاحظ أي شئ في الشارع فكل تركيزه كان منصب على أن ينهي ما أتى من أجله، ربما نسى أنه قضى جزءا من حياته في هذا المكان أثناء فترة دراسته، مثلما نسى الكثير ، فقد نسي ملامح الشارع الذي يسكن فيه و نسي أسماء جيرانه و أقاربه و نسي أشكالهم..بل ربما نسي ملامح أمه و أبيه اللذان يسكن معهما في نفس البيت في غمرة إنشغاله و عودته للبيت في أوقات متأخره و خروجه دون أن يشعر به أحد..
     إنه يعلم أين هو المكان فلن يضيع وقته في البحث عنه أو سؤال الناس أين هو، و كلا منهم يصف له وصفة قد تزيد من حيرته و قد تجعله يتوه،فهذا ما قد صارت إليه فكرته عن سؤال الناس بعد أن كان يؤمن بأن (إللي يسأل ما يتوهش) !! فربما فعلا لن يتوه..و لكنه سيضيع وقته !!
    وصل المكان،و حالفه الحظ فقد كان الموظف المقصود ليس لديه أحد، و بش الموظف في وجهه كالمعتاد،و مد له يده في كسل ليتناول أوراقه، نظر فيها وطلب منه البطاقة الشخصية ليتأكد أنه هو صاحل الأوراق، ثم رد إليه البطاقة،ثم نظر في الأوراق مرة أخري ، ثم مدها إليه و البسمة مازالت على شفتيه ، و قال :
الورق تقريبا كامل،عاوزين بس طابعين من البوسطة، موارد و أسرة !!
- طيب ما فيش أي حد بيبعهم هنا ؟
- لا و الله لازم تروح البوسطة !!
ملأ الغضب مجاهل و جهه ،و لكنه كظم غيظه و تناول الورق من الموظف، وأراد أن يفرغ غيظه في سيجارة ،فأكتشف أنه نسي علبة سجائره !!، سأل الموظف :
طيب أقرب بوسطة هنا فين؟
و هنا اضطرته الظروف لأن يسأل !!
- أجابه الموظف :
بص يا سيدي، هتنزل من هنا و تاخد يمينك لغاية أول تقاطع،و بعدين،اللهم صلي على النبي، تيجي معدي الناحية التــ...
قاطعه :
شكرا شكرا ، أنا كدة عرفت المكان !!!
ثم انطلق مسرعا تاركا الموظف و علامات الحيرة تفترش وجهة و هو يقول :
إيه يا اخويا ده ؟ مجنون ده و لا اية ؟!!
دا أنا حتى لسة ما كملتلوش بقية المطلوب !!
    
       نزل من عند الموظف،و لكنه لم يتجه يمينا، كما وصف له الموظف في بداية وصفته التي لم تكتمل، بل إتجه ناحية اليسار!!
توقف بجانب كشك لبيع السجائر،و أخرج من جيب بنطاله رزمة نقود أخرج من وسطها ورقة نقدية فئة عشرون جنيها ثم ناولها للبائع قائلا :
واحدة مارلبورو..
ثم تابع..و ولاعة كمان لو سمحت.
..تناول علبة السجائر والولاعة و الباقي ثم أخرج سيجارة وأشعلها و أنطلق في الاتجاه الأخر،فقد كان يعلم تماما أين يقع مكتب البريد...فقد كان هنا من قبل و لكنه كان قد نسى هذا !!
   رجع للموظف و قد أحضر الطوابع المطلوبة،طبعا بعد أن ذهب و عاد كالرصاصة غير عابئ و لا ملاحظ لأي شئ مما حوله سواء أكان بشر أم جماد،فهل يضيع وقته بالنظر و هو ليس لديه وقت!،كان هناك بعض الأشخاص أمام الموظف، حوالي خمسة أشخاص،فأضطر أن ينتظر دوره، و هذا شئ يكرهه جدا، فهو ليس لديه وقت !!
   إنتظر حتى انتهوا جميعا و قد لاحظ أن أيا منهم أوراقه لم تنتهي فقد كانت أوراق كلا منهم ينقصها شئ فيأخذ التعليمات من الموظف و يخرج لإحضاره، وقف أمام الموظف قائلا :
جبت الطوابع أهه، يار يت بقى تخلصلي الورق بسرعة !!
تناول الموظف الورق منه و بسمته كما هي، مما جعله يعتقد أن هذه ليست بسمة و لكنها إحدي ملامح وجهه ! ، نظر الموظف في الأوراق ثم قال :
جميل !
بش هو لذلك وقال :
يعني كدة كله كامل و تمام ؟!
- قال الموظف :
تقريبا !!
- قال و قد بدأت ملامحه في التعقد :
تقريبا ؟!! ، ناقص ايه تاني ؟!
- رد الموظف :
ناقص ختم مديرية الأمن !
- فرد محاولا كظم غيظه :
طيب و ليه حضرتك ما قلتليش أول مرة لما طلبت الطوابع ؟!
فرد الموظف و قد شعر بالإنتصار فقد حانت لحظة تذكيره بالخطأ الفادح الذي ارتكبه :
لأن حضرتك خرجت، أو الأصح جريت !، قبل ما أكمل لك كلامي !
..وجم  قليلا و قد إمتلأ وجهه بالغضب، فقال له الموظف :
عارف مكان مديرية الأمن ؟
تناول الورق من يد الموظف و هو يخرج مسرعا،فهو ليس لديه وقت، و هو يقول :
عارف.. عارف !!
إنطلق في نفس الإتجاه الذي قطعه في طريقه إلى مكتب البريد في المرة الاولى، فقد كانت مديرية الأمن تبعد شارع واحد عن مكتب البريد، لم يذهب إليها إلا مرة واحدة أثناء إقامته هنا،و لكنه يعرفها جيدا فكثيرا ما مر من أمامها في صحبة أصدقاء دراسته، الذين نسيهم جميعا في غمرة إنشغاله بعمله..فهو ليس لديه وقت !!
و مثل المرة الأولى آثر عدم ركوب مواصلات فمن خلال (تخريمات) وسط الشوارع الجانبية سيصل لوجهته أسرع من استقلاله لميكروباص أو تاكسي،وصل المديرية وقام بختم الورقة و عاد أدراجه في طريقه إلى الموظف، و سار كعادته كالرصاصة لا ينظر لأحد و لا ينظر لشئ،فهو ليس لديه وقت !،في منتصف الطريق شعر بالجوع-خاصة أننا إقتربنا من الظهر- و أكتشف أنه لم يتناول فطوره،فقد نزل بدون فطور لأنه ليس لديه وقت !!
   أصابه الحنين-و لأول مره- تجاة (مطعمكم) و هو المطعم الذي إعتاد هو و زملائه أن يتناولوا فيه معظم وجباتهم،ليس ببعيد يحتاج ( تخريمة) بسيطة من الشارع القادم،و لكنه غضب من نفسه ، أكل اية ؟! فهو ليس لديه وقت !!..و لكنه وبعد حرب طويلة ( خرم ) متخذا طريقه بإتجاه مطعمكم !!
    خرج من المطعم بعد أن دفع 20 جنيه ثمنا لسندويتش شاورمة وسندويتش كبدة، لم يكن يعلم أن الأسعار زادت في مطعمكم بهذا الشكل،و لكنه لم يشعر بما دفع، فالنقود معه كثيرة !!
أخيرا وصل للموظف و لحظه-و أكيد هذا غريب- لم يجد عنده أحد !!
أعطاه الأوراق و قد زينها ختم مديرية الأمن،فنظر الموظف فيها،وكعادته بسمته كما هي، حتى تيقن أنها ليست بسمة ولكنها من ملامح وجهه ! ،و قال له :
باقي بس حاجة صغيرة !!
- فقال في غضب :
تاني ؟!!
- قال الموظف :
لا لا مش هتخرج تاني !!، دا هنا ، هتنزل بس للأستاذ محمود في الدور إللي تحت هيمضي لك هنا؛ و أشار له على مكان في الورقة، و بعدها هتروح لحضرة المدير في نفس الدور، لكن في المكتب اللي بعد الطرقة على اليمين، يمضي هنا،و أشار له على مكان بجوار مكان إمضاء الأستاذ محمود،و بعدها هتيجي لي هنا تاني أختمهالك و تتوكل على الله !!
..إستجمع كل ما به من صبر و برود أعصاب و قام بكل هذا، ثم خرج بعد أنهى (المصلحة) و كأنه قد خرج من جهنم  إلى فساحة الشارع الذي ينطلق فيه كالرصاصة و لا يرى أو ينظر لشئ فيه !!

    قرر أنه لن يمشي بإتجاه اليسار،مثلما جاء منه أول مرة و الذي سيسير فيه ليركب سيارة أجرة ليعود لأعماله،فهو قد ترك سيارته بالمنزل لخوفه من زحمة المواصلات و آثر ركوب سيارة أجرة، قرر أن يمشي بإتجاة اليمين!! وأن يمشي ببطء، و أن ينظر لكل شئ بتمهل !!
   بعد مبنى واحد لاحظ فتاة صغيرة-لا تتعدى سنها  الستة أعوام- جالسة على الرصيف  تبيع المناديل،كان بيدها ثلاتة علب بثلاثة ألوان مختلفة،يبدو أنها قد ( فرشت ) هنا الأن وفقط، فهو لم يرها في مروره،و لكن..و لكنه يتذكر هذه الألوان!! فقد لمحها بطرف عينه عندما مرق من هنا كالرصاصة ثلاثة مرات من قبل !!
    كانت الفتاة تبدو وكأنها هي و الرصيف قطعة واحدة،مرتدية ملابس قديمة رخيصة الثمن، جالسة على قفص مصنوع من جريد النخل و قد وضعت فوقه قطعة من الكرتون كي لا يؤلم جسدها النحيل،و أمامها بضاعتها المكونة من مناديل و فقط على قفص أخر أمامها، كانت إبتسامتها لا تنقطع، ولكنه تأكد انها ابتسامة حقيقة وليست إحدي ملامح و جهها مثل صاحبنا الموظف،كانت مادة يدها بالمناديل و لا تنطق أو تتسول الزبائن مثلما يفعل الكثيرون من الباعة الجائلين الذي يفترشون الشوارع في كل مكان،لا تجبر أحد على الشراء باستعطافه أو بمضايقته،إن أردت فأشتري و إلا فأكمل طريقك بدون مضايقات !!
نظر في نفسه و في هذه الطفلة، كان هو يجمع ثروته بمكاسب وأرباح تقدر بألاف الجنيهات في صفقات إسبوعية أو شهرية، أما تلك الصغيرة فقد كانت تجمع قوت يومها بما يخرج لها من مكسب يقدر بالقروش يوميا ربما ليسد جوعها بأقل الأطعمة جودة و لذة..هو نسى الإبتسام  وهي البسمة لا تفارق شفتيها،هو لم يعلم و لم يذق في يوم من الأيام طعم الرضا، بكل ما يملك من أموال و سبل للراحة،و هي يملأ وجهها الرضا بما يرزقها ربها به من قروش قليلة يوما بيوم،هي تملك كل الوقت لتنظر و تتأمل و تضحك و تعيش، و هو ليس لديه وقت !!
ليس لديه وقت ليحب،و ليس لديه وقت ليتزوج،و ليس لديه وقت لينظر في وجوه الناس و ليس لديه وقت ليزور إخوته البنات الذين قد نسوا شكله،و ليس لديه وقت ليجلس مع أبويه اللذان قد نسى أشكالهما وليس لديه وقت لـــ....ليس لديه وقت ..ليس لديه وقت !!
   
      إقترب منها و في يده قطعة نقدية فئة خمسون جنيها، كان قد أخرجها من بين رزمة النقود التي يمتلأ بها جيبه، نظر إليها وابتسم من قلبه،نظرت و إبتسامتها كالعادة لم تفارق شفتيها،تناول علبة مناديل من يدها ومد إليها يده الأخرى بالخمسين جنية،تناولتها و نظرت فيها وقالت :
طيب ما معاكش فكة؟!!
أصل أنا ما معاييش فكة خالص و ده أول باكو مناديل أبيعه !!،وعادت البسمة لشفتيها..
..فكر هو :
أول باكو مناديل تبيعه من الصبح !!
إبتسم إليها وقال :
 مش مهم !!
فقالت مبتسمة :
هتشتري بالخمسين جنية كلها مناديل ؟
فقال و هو يقترب منها مبتسما و سعيدا جدا :
لأ..هأقعد جنبك بالباقي !!، ينفع ؟!
ثم جلس بجانبها و هي تبتسم و تضحك،و كأنه قد عرف الأن فقط  أن عنده وقت!،و هو أيضا يبتسم و يضحك من قلبه و ينادي و في يده مجموعة من علب المناديل:
مناديــــل... مناديـــل !!

هناك 15 تعليقًا:

  1. أحيانا لحظة , نظرة , موقف .. بيأثر فينا جداويغير حياتنا كلها .. ويخلينا نفتكر نحمد ربنا
    جميل أوى الرضا .. جميل أوى ان الانسان يفتكر نعم ربنا الكتير عليه ويحمده عليها
    ربنا يرزقنا الرضا
    جميلة أوى القصة وخصوصا الجزء الأخير .. فى انتظار جديدك

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك أستاذة مروة على مرورك الذي شرفني و أسعدني جدا،..الخوف كله أن تأتي هذه اللحظة أو تلك النظرة او الموقف متأخر جدا..كل الشكر و التحية.

      حذف
  2. هذه هي اللحظة التي تكتشف فيها انك تهتم بوقتك كثيرا و لا تضيعه و لكنك تضيع أشياء أخرى اهم بكثير

    اكثر من رائعة
    ابدعت

    ردحذف
    الردود
    1. دكتور مصطفى..أشكرك جدا جدا لأنك أستطعت أن تصوغ الفكرة بشكل عجزت انا على صياغتها به..شرفتني و أسعدتني جدا..تحياتي

      حذف
  3. قد تملك لحظة تعادل عمر بأكمله في أهميتها و جمالها
    أسلوب جميل و مشوق

    تحيتي

    ردحذف
    الردود
    1. أتفق معك أستاذة زينة..شرفتني و أسعدتني جدا زيارتك..كل الشكر و التحية

      حذف
  4. قصة رائعة

    تسلم ايدك

    مع خالص تحياتى

    ردحذف
    الردود
    1. أزال المؤلف هذا التعليق.

      حذف
    2. أشكرك استاذ تامر،شرفتني و أسعدتني جدا زيارتك و تعليقك..كل الشكر و التحية

      حذف
  5. صباح الغاردينيا
    وانا ايضاً أبتسمت :)
    لأن أجمل مافي الحياة أن نمتلك وقت لقلوبنا وأبتسامتنا
    قصة جميلة ونهايتها أجمل "
    ؛؛
    ؛
    لروحك عبق الغاردينيا
    كانت هنا
    Reemaas

    ردحذف
    الردود
    1. صباح/مساء الورد و عطر الورد ريماس..أتفق معك في تعليقك و أشكرك عليه..و أشكرك على مرورك الدائم الذي يشرفني و يسعدني جدا..كل الشكر و التحية

      حذف
  6. كأنك تكتبنى
    رائعة هى طريقة سردك للاحداث كعادتك
    فى انتظار جديدك
    تقبل تحياتى

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك أستاذ محمد..دوما نحن البشر نتشابه في الكثير و لكن تحفذنا و خلافتنا تجعلنا نعتقد اننا اختلاف محض !!
      أشكرك عل مرورك و تعليقك الذي شرفني و أسعدني..تحياتي.

      حذف
  7. كانت رائعة .. قرأتها قبل النوم
    حبيت أسلوبك أوي و القصة مثيرة و جذابة
    و كمان كتير مننا بيعيش كل حياته كدة
    و بيتصدم لحظة إنه مش عايش أصلا

    إيمي

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك إيمي، على تعليقك اللطيف،و أكيد كلنا في حاجة لمراجعة حسابتنا و رتم و روتين حياتنا من وقت لأخر..أشكرك على مروك الذي شرفني و أسعدني جدا..تحياتي.

      حذف

فضفض و قول اللي في ضميرك
مشتاق صديقك لأي قول